[حكمة تقدير الذنوب]
النقطة الثانية: فلسفة الذنب، وأعني بالفلسفة -حتى لا يعترض معترض- التحليل والتعليل لتقدير الذنب؛ فإن من الناس من تعرض له شبهة، فيقول: لأي أمر قدر الله وقوع الذنوب وحصول المعاصي؟ ولأي شيء يبتلي بها العباد؟ ولأي شيء زين الدنيا وزخرفها حتى خطفت الأبصار وسبت القلوب؟ نقول: كل شيء عنده سبحانه وتعالى بقدر، وكل قدر له حكمة، وكل حكمة فيها رحمة ولطف منه سبحانه وتعالى، فلا يعجلن المرء في مثل هذا، وينبغي أن يعلم أن هناك حكماً كثيرة لتقدير الذنوب، وما ذكره أهل العلم منها إنما هو بقدر ما استنبطوا، وإلا فإن الإدراك لحكمة الله في أقداره أمر يعجز البشر أن يكونوا محيطين به إحاطة كاملة، ومن هذه الحكم: أن مجاهدة المعاصي من أعظم ما يقوي خوف العبد وذله لربه سبحانه وتعالى الذي ابتلاه بالشهوات والنزوات، فهو معها في حرب طاحنة، وكلما رأى عظم أثرها وخطورتها لجأ إلى الله سبحانه وتعالى وخاف من العقوبة، وهذا في حد ذاته لون من ألوان العبودية لم يكن ليحصل لولا تقدير الذنب، كما ذكر ذلك أهل العلم؛ ولذلك جاء من حديث أبي هريرة عند مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم) وبعض من ليس عنده بصيرة يقول: كأن دلالة الحديث تدعو من لم يكن عاصياً إلى أن يعصي حتى يرضى الله عنه؛ لأنه يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بأقوام يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، وليس الأمر كذلك، بل هي أقدار الله التي تجعل العبد يعرف مقام عبوديته، ثم يعرف مقام ربه ومولاه سبحانه وتعالى، ويعرف عجزه، فيلجأ إلى قدرة الله عز وجل، ويعرف ضعفه فيلجأ إلى قوة الله سبحانه وتعالى، ويعرف قلة حيلته فيلجأ إلى مكر الله وكيده، ويعرف فقره فيلجأ إلى غنى الله سبحانه وتعالى، ففي هذا الأمر حكم كثيرة؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:٩٩].
ومن حكمة تقدير الذنوب إظهار تأييد الله سبحانه وتعالى ونصره لأوليائه، وإظهار معجزاته في قهره وعقوبته لأعدائه، فنحن نرى حكماً وعبراً ودروساً عظيمة نشهدها، لكننا ربما نغفل عنها أو لا نعطيها حقها من التأمل، أفلسنا نرى أرباب المعاصي وعلى وجوههم ظلمة! ونرى كيف تحل بهم القواصم التي لم يكونوا يحسبون لها حساباً، ولا كان الناس يقدرون لها قدراً؟! ألم نسمع ونقرأ في كتاب الله عز وجل عن قارون الذي بغى وطغى وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:٧٨] ثم خرج على قومه في زينته فكان العقاب: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:٨١]؟! وعلى مرأىً من الناس أظهر الله عز وجل قدرته، وفي ذلك ما فيه من المنافع والمصالح التي تجعل الناس يعرفون الحق فيقبلون عليه، ويعرفون الباطل فيحذرون منه، ويعرفون آثار المعاصي الوخيمة وآثار الطاعات النافعة المفيدة، فهذا أيضاً من الحكم.
ومن ذلك ظهور أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، كما أفاض في ذلك ابن القيم وابن تيمية وصاحب شرح الطحاوية وغيرهم، فإن من أسمائه سبحانه وتعالى التواب، ومن أسمائه سبحانه وتعالى الغفار، كما أن العزيز والجبار والقهار من أسمائه سبحانه وتعالى، فكيف يكون غفاراً وليس ثمة مذنب؟ وكيف يكون تواباً وليس ثمة تائب؟ فهذه من حكم الله سبحانه وتعالى.
وكذلك في تقدير الذنب من الحكم أن فيه إبطالاً لدعوى القائلين بالجبر، وهم الذين يقولون: إننا مجبورون، فإذا كنا كذلك فلا حساب علينا! فهذا الاختيار جعله الله عز وجل امتحاناً وابتلاءً، كما قال سبحانه: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:٢]، وتقدير المعصية والطاعة فيه بيان لهذا الابتلاء والامتحان، وإلغاء وإبطال لشبه أهل الجبر والاضطراب؛ ولذلك كتب ابن القيم مقالات نفيسة تبين مثل هذا الأمر، وفيها ما نحتاج بالفعل إلى أن نعيد النظر فيها، لا تهويناً لأمر الذنوب، ولكن فهماً لحكمة تقديرها وابتلاء الناس بها، يقول ابن القيم وكان الله يخاطب آدم عليه السلام: يا آدم! كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك، واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك، أي: قبل أن تسبق من آدم معصية ما كان يشعر بأنه مفتقد إلى ربه ومولاه سبحانه وتعالى، وزاد ذلك توضيحاً فقال: يا آدم! لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كيسك؛ فطنت فيها لعدوك، وعرفت مكمن الخطر الذي يتربص بك.
وهذا أيضاً من حكمة تقدير الذنب، فقد استخرج الله منك داء العجب، وألبسك خلعة العبودية.
وأضرب لذلك مثالاً: لو أن مدرساً يدرس طلاباً على مستوىً عالٍ من الفهم والذكاء والحفظ والفطنة، وكان لا يسأله أحد منهم ولا يخطئ واحد منهم في إجاباته، فهل ترون هذا المدرس يكون سعيداً بهذا؟ إذا لم يكن منهم خطأ مطلقاً، ولا سؤال أبداً، فكأنه لا قيمة له، وكأن هؤلاء قد استغنوا عنه، لكن قيمته تظهر عندما يكون هؤلاء على مستوىً عال من الفهم والإدراك والحفظ والفطنة والذكاء وغير ذلك، ثم هم يفتقرون إليه ولو في أقل القليل، فإن ذلك يشعره بمنزلته كأستاذ لهم، ويعرفون أنهم طلاب له، ولله المثل الأعلى فإن العبد إذا لم يكن عنده شيء من الغفلة ولا المعصية فإنه يدل بطاعته على ربه ومولاه، ويقول: أنا لم أعص، وإنما أفعل دائماً الطاعات، فكأنه يستشعر -عياذاً بالله- منة منه على ربه ومولاه سبحانه وتعالى، والله خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:٦] أي: لا تستكثر شيئاً تعمله في طاعة الله تمن به على الله سبحانه وتعالى، فالله أمن وأجل.
قال أهل العلم: إن في تقدير الذنب ما يشعر الإنسان بأن نعم الله عليه أكثر مما يستحق، فإنه عندما يرى ذنوبه يقول: كيف لطف الله بي، أنعم علي، وأنا على مثل هذه المخالفات؟! فإذا وفق للطاعات رأى أن ما أنعم الله به عليه أكثر مما قدم من هذه الطاعات، فلا يزال مستشعراً نعمة الله حال طاعته وحال وقوعه في الذنب، نسأل الله عز وجل السلامة، ولذلك يقول ابن القيم رحمة الله عليه في الحديث عن آدم: تالله ما نفعه عند معصيته عز: (اسجدوا) العز الذي جعله الله له عندما قال للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:٣٤]، ولا شرف: (وعلم آدم) الشرف الذي ناله عندما قال الله له: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:٣١]، ولا خصيصة: (لما خلقت بيدي) لما قال: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:٧٥] ولا فخر: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:٢٩] كل هذه المزايا ما نفعته، وإنما انتفع بذل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣].
فتأمل كل تلك الأمور التي كانت أمور علو ورفعة، فقد يدخل العجب فيها إلى نفس الإنسان، أو إلى ما كان من آدم عليه السلام، حيث علمه الله عز وجل وخصه بأن خلقه بيديه، وشرفه بأن نفخ فيه من روحه، وعظمه بأن أسجد له ملائكته، كل ذلك أمر آخر، لكن عندما وقع في المخالفة والمعصية جبلة وفطرة وقضاءً وقدراً وحكمة من الله بالغة رجع إلى ربه كما حكى الله عنه: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣]، وكما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة:٣٧].
يقول ابن القيم رحمة الله عليه: لما كان وقوعه في الذنب -أي: العبد- ليس اجتراءً على سيده، ولكنه ضعف النفس وغفلة الهوى واستزلال الشيطان علمه كيف يتوب إليه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:٣٧] فالذي عصى هو آدم عليه السلام حيث وقع في الاجتراء والمخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى، لكن لما وقع حصول الندم والذل لله عز وجل من قبل آدم علمه الله سبحانه وتعالى الكلمات التي يتوب بها إليه سبحانه وتعالى؛ لأنه عز وجل يحب من عباده أن يسألوه، وأن يذلوا له، وأن يفتقروا بين يديه، وأن يتضرعوا إليه، وأن يكونوا مستشعرين دائماً لعبوديتهم له، ولربوبيته وألوهيته سبحانه وتعالى عليهم، ولذلك ينبغي أن ندرك هذا المعنى، وأن نفهمه، ولذا قال ابن القيم: لولا تقدير الذنب لهلك ابن آدم من العجب.
وانظروا الآن إلى من كانت عنده بعض الطاعات وقلت عنده المعاصي، فإن لم يكن حذراً وإن لم يكن متيقظاً فإنه يعلوه العجب، ويخالط نفسه الغرور، ويكون غروره وكبره هو حتفه وخسارته، ولا تنفعه تلك الطاعة التي رافقتها هذه الخلال الذميمة، كما أن المذنب عندما يستشعر الخطأ والاجتراء على عظمة الله عز وجل فيندم يكون أقرب إلى الله عز وجل من ذاك الطائع إذا تكبر، ولذلك قال ابن القيم: لولا تقدير الذنب لهلك ابن آدم من العجب.
وذنب يذل به العبد أحب إلى الله تعالى من طاعة يدل بها عليه، ولذلك قال ابن القيم: شمعة النصر إنما تنزل في شمعدان الانكسار، إذا لم تنكسر لله عز وجل وتمرغ الجبهة وتذرف الدمعة ندماً وخوفاً ورغبة فيما عند الله عز وجل فما وقعت من أمر العبودية على الأمر الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه.
وليس فيما ذكرت تهوين للذنب، وإنما بيان للحكمة البالغة التي جعلها الله عز وجل فيه.