للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضائل عائشة رضي الله عنها وخصائصها ووصفها]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله هو لكل خير يرتجى، وإليه من كل شر الملتجأ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن بهم اقتدى، وإن هدى الله هو الهدى، من تمسك به اهتدى، ومن حاد عنه ضل وغوى.

أما بعد: فهذا الدرس الخامس والخمسين، وهو بعنوان: (عائشة الحميراء قدوة النساء) وقد سلف لنا أحاديث عديدة حول ما يتعلق بالمرأة المسلمة وبعض الموضوعات المتعلقة بها، وحديثنا عن عائشة رضي الله عنها يخدم هذا الجانب على وجه الخصوص، وإن كان في موضوع سيرتها ما هو نافع ومفيد للمجتمع المسلم كله رجالاً ونساءً؛ لأن في مواقفها وتعاملها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما مر بها من الأحداث والوقائع مع الصحابة رضوان الله عليهم ما فيه كثير من الدروس والعبر.

والحديث الذي يجري في هذا الصدد أيضاً له سبب آخر؛ لأن ما يتعلق بتراجم النساء وقدوات المؤمنات يعتبر قليلاً في جانب ما هو منصوب من القدوات في صفوف الرجال، فنحن نعلم أن الحديث يكثر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الأئمة العلماء، وعن سلف هذه الأمة، ونذكر الإمام أحمد والشافعي وأبا حنيفة والإمام مالكاً وغيرهم من هؤلاء، ويقل ذكر قدوات النساء، فلعل ذكر عائشة رضي الله عنها يعتبر مثالاً يحتذى؛ لما لها من عظيم الفضائل وكثير الخصائص رضي الله عنها وأرضاها.

فـ عائشة رضي الله عنها -كما قال الذهبي - بنت الإمام الصديق الأكبر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر عبد الله بن قحافة عثمان بن عامر القرشي القرشية التيمية المكية النبوية أم المؤمنين رضي الله عنها، فقد حازت الفضل من كل جوانبه، ونالت الشرف من سائر أوجهه، وهي التي ولدت في ظلال الإسلام، كما قالت: (لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين).

فقد ولدت في الإسلام وفي بيئة إسلامية، وحتى ندرك بإيجاز أول ما يتعلق بسيرة عائشة رضي الله عنها نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها وهي ابنة ست سنين، ودخل عليها وهي ابنة تسع سنوات، وتوفي عنها صلى الله عليه وسلم وهي ابنة ثماني عشرة سنة).

فتأمل هذه السيرة التي أهلتها بعد ذلك إلى أن تكون قدوة من القدوات، وعلماً من أعلام الأمة الإسلامية كلها مع هذه الفترة الوجيزة، لكنها كانت فترة عظيمة لالتصاقها برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وذكر أهل السير في وصفها أموراً وأوصافاً كثيرة، كما أفاض في ذلك ابن كثير في البداية والنهاية عندما ترجم لها في سنة وفاتها، قال: أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أزواجه إليه، المبرأة من فوق سبع سماوات رضي الله عنها وعن أبيها.

وأمها هي أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، وكانت عائشة رضي الله عنها تكنى بـ أم عبد الله، ولم يكن لها ولد؛ لأنها لم تلد مطلقاً، لكنها ربت ابن أختها أسماء وهو عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، فكانت تكنى به رضي الله عنها.

وقد أوجز ابن كثير في هذه الترجمة ما سأذكره بإيجازه ثم يأتي تفصيل بعضه.

ذكر ابن كثير جملة وافرة من خصائص عائشة رضي الله عنها فقال: لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً سواها، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها، ولم يكن في أزواجه أحب إليه منها، فهذه كلها أمور لم يشاركها فيها غيرها.

قال: وقد أتاه الملك بها في المنام في سرقة من حرير مرتين أو ثلاثاً يقول له: هذه زوجتك.

فتزوج بها بأمر الله ووحي الله سبحانه وتعالى.

قال: ومن خصائصها أنه كان لها في القسم يومان: يومها ويوم سودة حين وهبتها ذلك تقرباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن خصائصها أنه مات في يومها وفي بيتها وبين سحرها ونحرها صلى الله عليه وسلم، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعات الدنيا وأول ساعة من ساعات الآخرة له عليه الصلاة والسلام، ثم دفن في بيتها.

ومن خصائصها أنها أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي أعلم نساء الأمة على الإطلاق بلا نزاع في ذلك بين أهل العلم.

وقد قال أهل العلم في وصف علمها شيئاً كثيراً يأتي ذكره لاحقاً.

فهذه عائشة رضي الله عنها بما ذكر في وصفها على سبيل الإجمال، وفضائلها كثيرة مشهورة في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد جاء ونزل في حقها آيات تتلى من كتاب الله عز وجل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ففي الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أريتك في المنام ثلاث ليال جاء بك الملك في سرقة من حرير -يعني: مغطاة بقطعة من حرير- يقول: هذه امرأتك.

فأكشف عن وجهك فإذا أنت، فأقول: إن يكن هذا من عند الله يمضه) وقد أمضاه الله سبحانه وتعالى.

وفي فضيلة قربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم محبته عليه الصلاة والسلام لها ما ورد في الحديث الصحيح عن عمرو بن العاص -وهو ممن أسلم في السنة الثامنة للهجرة- أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) فكانت هي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال الذهبي بعد إيراده هذا الحديث تعليقاً عليه قال: وهذا حديث ثابت صحيح رغم أنوف الروافض، وما كان عليه الصلاة والسلام ليحب إلا طيباً، وقد قال: (لو كنت متخذاً خليلاً من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام أفضل) يقول الذهبي: فأحب عليه الصلاة والسلام أفضل رجل وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حري أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله.

وأقوال الرافضة في عائشة رضي الله عنها مرفوضة مردودة قبيحة، حتى إن بعضهم قد غالى في ذلك وقال قولاً يكفر به صاحبه إن اعتقده، قال بعض الغلاة ممن كانوا على هذه النحلة والملة في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:٦٧] قال: هي عائشة.

تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

عن هشام بن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة) لمعرفة الصحابة محبة النبي عليه الصلاة والسلام لـ عائشة، فقد كانوا يهدون إليه في اليوم الذي يكون عندها، حتى يكون ذلك اليوم أكثر سعداً وفرحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة: (فاجتمعن صواحبي إلى أم سلمة) وكانت أم سلمة من كبار أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سناً، وسيأتي تفصيل الحزبين اللذين كانا في أزواج النبي عليه الصلاة والسلام بحكم طبيعة المرأة وغيرتها.

قالت: (فجئن إلى أم سلمة فقلن لها: إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فقولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر الناس أن يهدوا له أينما كان.

فذكرت أم سلمة ذلك له فسكت فلم يرد عليها، فعادت الثانية فلم يرد عليها، فلما كان الثالثة قال: يا أم سلمة! لا تؤذيني في عائشة؛ فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها) وهذه فضيلة لها عن باقي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

وتحكي عائشة حال أزواجه صلى الله عليه وسلم، وهذا بيان طبيعة فطرة المرأة مع العصمة في الشرع والبعد عن المخالفة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

تقول عائشة: (إن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن حزبين: فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر فيه أم سلمة وسائر أزواجه، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله عليه الصلاة والسلام عائشة، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله أخرها حتى إذا كان في بيت عائشة بعث بها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.

فتكلم حزب أم سلمة مع أم سلمة لتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها ذلك القول، فقالت في هذه الرواية أم سلمة: أتوب إلى الله من ذلك يا رسول الله.

ثم إنهن دعون فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلنها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام تقول له: إن نساءك ينشدنك العدل في بنت أبي بكر.

فكلمته فقال: يا بنية! ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى.

فرجعت إليهن وأخبرتهن، فقيل لها: ارجعي إليه.

فأبت أن ترجع، فأرسلوا بعد ذلك زينب بنت جحش رضي الله عنهن جميعاً، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظت له في القول وقالت: إن نساءك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة، فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة -أي: ببعض القول- وعائشة قاعدة، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر إلى عائشة هل تتكلم؟ قال: فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسككتها -أي: ذكرت لها من القول ما ألجمها وأسكتها- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنها ابنة أبي بكر) فشهد لها هذا الموقف بفضلها على أ