الحمد لله جعل الإيمان أماناً ونوراً للقلوب، وجعل الإسلام سلامةً وشرحاً للصدور، وجعل الهداية سعادةً ونعيماً للنفوس، ووعد أهل التقوى بسعادة الدنيا وبنعيم الجنان، أحمده سبحانه وتعالى على توالي نعمه، وتعاظم فضله، نحمده جل وعلا هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، تبارك اسمه، وجل قدره، وعم نواله، وكثرت أفضاله سبحانه وبحمده، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، وله الحمد حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي، وله الحمد بعد الرضا، حمداً كثيرا ًطيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله كافة للناس أجمعين، وبعثه رحمةً للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وبصر به من العمى، وكثرنا بدعوته من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، وهدانا من بعد ضلالة.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خيرٍ إلا وأرشدنا إليه، وما من شرٍ إلا وحذرنا منه، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب:٧٠ - ٧١] أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! يتعب كثيرٌ من الناس نفسه ليله ونهاره، ويشقى صبحه ومساءه، ليجمع من عرض الدنيا ما يكثر به ماله، وما يعظم به رصيده؛ طلباً للسعادة والهناء في الدنيا، ويذل كثيرٌ من الناس نفسه، ويحكم كيده، ويدبر أمره لينال المنصب والجاه، أو ليحوز النفوذ والسلطان؛ طلباً لسعادةٍ وعزةٍ وعظمةٍ في هذه الحياة، وكثيرون آخرون يتفننون ويبتكرون، ويقبلون ويدبرون من أجل أن يفوزوا بقلب فتاة حسناء؛ طلباً للذة من لذات هذه الحياة.
ويضرب الناس شرقاً وغرباً، ويذهبون يميناً وشمالاً، كلهم في هذه الحياة يبغى السعادة والهناء، يبحث عما ترغب فيه نفسه، ويطرب له قلبه وتسكن إليه جوانحه، وتطمح له آماله، وكثيرٌ من هؤلاء قد يحوزون من الأموال الشيء الكثير، وقد ينالون من الجاه أعظمه وأكثره، وقد يفوزون من لذائذ الدنيا بأحلاها وأجملها، ومع ذلك ترى في صدورهم حرجاً، وترى في نفوسهم غماً وهماً، وترى على قلوبهم قتراً وظلماً وظلاماً، لا يجدون طعماً للراحة، ولا يجدون لذةً للحياة إذا كانوا بعيداً عن الإيمان بالله عز وجل، وعن لذة الطاعات، بعيداً عن سعادة العبودية لله سبحانه وتعالى:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:١٢٣ - ١٢٤] آيات قلائل من كتاب الله عز وجل تفسر سر هذا البحث الدءوب عن هذا الكنز الثمين في هذه الحياة العريضة من أولئك البشر الذين لا يحصي عددهم إلا الله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}[طه:١٢٣]{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:١٢٤] فتش في شرق الأرض وغربها، اذهب إلى أي بقعة من بقاع الأرض، ابحث في أي جنسٍ من الأجناس ستجد القاعدة القرآنية الربانية:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}[طه:١٢٣] والتعبير القرآني بصيغة المضارع الذي يتجدد دائماً، والحكم القرآني مطرد لا يتخلف، والوعد الرباني ثابتٌ لا يتغير:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:١٢٤] والتنكير مع التنوين للتعميم، أي: معيشة في كل جانبٍ من جوانب الحياة، معيشة اقتصاد، معيشة اجتماعٍ، معيشة سياحة، كلها ستكون ضنكاً في كل صور الضنك التي يراها الناس أو لا يرونها، يلمسونها ويشعرون بها أو لا يلمسونها.
وهكذا يجد المؤمن أن عنده السر الذي يفقده الكثيرون، والضياء الذي يخبط لفقده الكثيرون، والنعمة التي قال عنها أسلافنا: لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف، نعمة الإيمان، ولذة الطاعة، وحلاة العبودية، نعمة الاستقامة أمرٌ عظيمٌ نغفل عنه، وربما لا نقدر قدره، والناس يتيهون بحثاً عنه وهو بين أيدينا، كتابٌ تتلى آياته من الله سبحانه وتعالى، فيه الهدى والنور:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}[الإسراء:٩] وسنةٌ للمصطفى صلى الله عليه وسلم تشرق أنوارها في كل جانب من جوانب الحياة، وتضيء معالمها كل درب من دروب هذه الدنيا بهديٍ تام كامل، وسيرةٍ نقية عطرة للمصطفى صلى الله عليه وسلم:(تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي) هذا الذي بين أيدينا هي الكنوز والمفاتيح التي بها تشرق أنوار القلوب، وتنشرح الصدور، وتضاء النفوس وتطمئن، وتهدى العقول، وترشد البصائر، فما بال أمة الإسلام يعتريها ما يعتريها مما ألم بغيرها ممن أعرض عن ذكر الله عز وجل؟ إنه بقدر بعدها عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقدر تركها لمنهج السعادة الربانية الذي رسمه الله عز وجل وشرعه في هذا الإسلام، وفي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم: أملٌ هفت إليه قلوب الناس في الزمن التليد أملٌ له غور القديم كما له سحر الجديد! أملٌ إليه سعى الملوك كما إليه رنا العبيد! وتزاحموا كالهيم يدفعها الصدى عند الورود وتساءلوا عنه ولكن من يجيب ومن يفيد؟ فمشرقٌ ومغربٌ وكلاهما يرجو البعيد عادوا وكل سؤالهم أين السعادة والسعيد؟ قالوا السعادة في الغنى فأخو الثراء هو السعيد قالوا السعادة في النفوذ وسلطة الجاه العتيد قالوا السعادة في الغرام الحلو في خصرٍ وجيد قالوا السعادة في السكون وفي الخمول وفي الخمود! قل للذي يبغي السعادة هل عملت من السعيد؟ إن السعادة أن تعيش لفكرة الحق التليد هذي العقيدة للسعيد هي الأساس هي العمود من عاش يحملها ويهتف باسمها فهو السعيد من عاش في ظلال الإيمان، وفي طاعة الرحمن، وفي نصر ة الإيمان، فهو الذي يكون سعيداً بإذن الله عز وجل.