[بيت المقدس وما حصل فيه من هزائم وانتصارات]
الوقفة الثالثة: وهي لب موضوعنا: نريد أن نقف في بعض المفاصل التاريخية؛ لنقرأ بين السطور ماذا وقع في الهزائم؟ وكيف وقعت الانتصارات في تاريخ الأمة المسلمة؟ هذه المفاصل كثيرة، وسأذكر منها اثنين بالتفصيل، وإن سمح الوقت ذكرنا ثالثاً.
الأول: ما يتعلق بحقوق بيت المقدس، والثاني: سقوط بغداد، والثالث: موقعة شقحب؛ لأن فيها دروساً عظيمة جداً.
في بيت المقدس لننظر كيف كان توجه المسيحيين في ذلك الوقت؟ وكيف توجهوا لقتال المسلمين؟ وبأي منطق وتحت أي مبدأ تجمعوا؟ نقرأ في سطور التاريخ وفي وقائعه ما ينبئنا عن أن في كل جولة لابد من تحقق أسباب، ومن رؤية معالم هي التي تكون بها الهزيمة أو يقع بها -بعد إذن الله عز وجل- النصر، تجمع المسيحيون تحت راية المسيحية، وتنادوا باسمها، وهذا المكمن الذي ينبغي أن يعلم المسلمون أنه لا نصر لهم إلا تحت راية الإسلام، وإلا أن يتنادوا باسم نصرة العقيدة والإيمان، أما غير ذلك فقد رأت الأمة هذه الصورة، وتجرعت مرارتها حينما تجمعت مرة باسم القومية، وأخرى باسم البعثية، وثالثة باسم الاشتراكية، فهوت بها كل واحدة إلى هاوية وبعد سحيق.
في ذلك الوقت ماذا كان من المسيحيين؟ إمبراطور القسطنطينية يبعث إلى ملك آخر من ملوك المسيحية في ذلك الوقت، ويناديه بنداء يستصرخ فيه الهمة لقتال المسلمين، فماذا يقول؟ يقول: إلى رجال الدين والدنيا تحية وسلاماً، أيها السيد العظيم! حامي حمى العقيدة المسيحية، أود أن أحيطك علماً بما وصل إليه تهديد الأتراك -يعني: السلاجقة المسلمون- للإمبراطورية الإغريقية المسيحية المقدسة، فهم يعملون فيها السلب والتخريب كل يوم، ويتوغلون في أراضيها دون انقطاع، وكم من مذابح وتقتيل وجرائم تفوق حد الوصف يقترفونها ضد المسيحيين الإغريق -وهذا أكثره كذب- فضلاً عن السخرية والتحقير، فإنهم يذبحون الأطفال والشباب داخل أماكن التعميد، حيث يريقون دماء القتلى محتقرين بذلك المسيح؛ لذا أستحلفك بمحبة الله وباسم جميع المسيحيين الإغريق أن تمد لنا وللمسيحيين الإغريق العون والمساعدة، وذلك بتقديم جميع جنود المسيحيين من كبير وصغير، فضلاً عن العامة ممن يتسنى جمعهم من بلادك.
فهذا تناد باسم الإيمان والعقيدة الباطلة، وتناد بالنصرة بالقوة الفعلية المؤثرة، وليس بمجرد القول أو الشجب أو الاستنكار أو البيانات، وليس تحت راية علمانية أو اشتراكية أو غيرها، فهكذا كان تجمعهم في ذلك الوقت، وكانت نظرة حديثهم.
بل إن الذين كانوا يقودون تلك الحروب ويؤججونها ضد المسلمين هم زعماء الدين، فهذا البابا أريان الثاني يوجه في مؤتمر كليرمونت في ذلك الوقت نداءه إلى أبناء الملة المسيحية كلها، فيقول: يا شعب الفرنجة شعب الله المحبوب المختار! لقد جاءت من تخوم الصين ومن مدينة القسطنطينية أنباء محزنة، تعلن أن جنساً لعيناً -يقصد به المسلمين- أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى في تلك البلاد بلاد المسيحيين، وخربها بما نشره فيها من أعمال السلب والحرائق، ولقد ساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم، وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشنع تعذيب، وهم يهدمون الكنائس بعد أن دنسوها برجسهم.
إذاً: مرة أخرى نداء العاطفة العقدية الإيمانية، ثم يقول: ألا فليكن لكم من أعمال أسلافكم ما يقوي قلوبكم، أمجاد شارلمان وعظمته، وأمجاد غيره من ملوككم وعظمتهم، فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس ربنا ومنقذنا تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! وهنا يربط بمبدأ مهم وهو القدوات التاريخية التي ترتبط بها الأمة لارتباطها بمنهج الله، فتثير فيها الهمة والعزيمة، واليوم يغير التاريخ ويدلس لتغيب القدوات الصالحة، ويغيب الأئمة من العلماء، ويغيب القواد من المجاهدين، وتظهر القدوات الفاسدة التي لا تقدم ولا تؤخر، بل حقيقة دورها أنها تشوه وتمسخ، وأنها تغتال وتقتل كل قيمة إيمانية، وكل همة وعزيمة وقوة في صفوف الأمة.
ثم يقول أيضاً لتتضح لنا الأسباب: طهروا -ولو قلنا هذا الكلام للمسلمين لكانوا أولى به وأحرى- قلوبكم إذاً من أدران الحقد، واقضوا على ما بينكم من نزاع، واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث.
إذاً: طالبهم بأن يزيلوا الأحقاد، وأن يمنعوا الخلاف والنزاع لتتوحد الصفوف، ونصب لهم هدفاً يهمهم ويشغل بالهم؛ حتى تتلاشى الأسباب الثانوية العارضة للاختلافات التي يثيرها الأعداء ليفرقوا صفوف الأمة، هذه صورة موجزة لما كانوا يتنادون به.
فماذا كانت صورة الأمة المسلمة في ومضات؟ كان أحد ملوك المسلمين حاكماً للموصل في ذلك الوقت، وبعد سقوط بيت المقدس أراد أن يجمع بعض الجيوش لمحاربة النصارى، لكن الأسباب كانت غير مهيأة ولا مواتية فماذا حصل؟ قتل هذا الملك المسلم في يوم العيد بعد الصلاة في وسط المسجد غيلة، فماذا وقع بعد ذلك؟ كتب ملك الفرنجة إلى طغتكين الذي جاء بعده كتاباً فيه كلمات موجزة، لكنها تنبئ أن القوم كانوا ينظرون إلى أسباب الهزيمة لائحة أمام أعينهم، فقال كلاماً جميلاً ذكره ابن كثير رحمة الله عليه، يقول: إن أمة قتلت عميدها، في يوم عيدها، في بيت معبودها، لحقيق على الله أن يبيدها.
كيف تنتصر وبينها هذه الخلافات؟ كيف تنتصر والأحقاد تتسلط عليها؟ كيف تنتصر وهي ليست موجهة نحو إعلاء كلمة الله ورعاية مصلحة الأمة المسلمة؟