[أبو بكر يرد ما أخذه من بيت مال المسلمين مدة خلافته]
أنتقل إلى صفحةٍ أخرى، في وفاة الصديق رضي الله عنه، فقد تقدم أنه عُني بشأن الأمة، فأي شيء كان شأنه رضي الله عنه في حال نفسه وأهله؟! دخلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على أبيها في شدة مرضه، وهي ترى ثقل المرض عليه وشدته به، فتمثلت بقول الشاعر: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر تقول: إنه إذا نزل الأمر فلا صارف له، فماذا قال الصديق في مرضه؟ كيف علق المؤمن العظيم على هذه الكلمات؟ وتأملوا ما يقول الصديق لابنته:(ليس كذلك يا أم المؤمنين، وإنما هو كما قال الله جل وعلا:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق:١٩]) ذلك المعنى أبلغ وأقوى، وأصدق وأجرى على لسان الصديق رضي الله عنه.
ثم قال لها:(يا عائشة! والله ليس أحد من أهلي أحب إلي منك، وكنت قد منحتك حائطاً وإن في نفسي شيئاً منه، فرديه على الميراث، قالت: نعم، فردته).
ثم قال رضي الله عنه وأرضاه:(أما إنا لمنذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم ديناراً ولا درهماً، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة، فإذا أنا مت فاقصدي بها إلى عمر بن الخطاب وأبرأ منهن).
هذه الأموال التي بقيت لـ أبي بكر مما كان يصرف له من بيت مال المسلمين أجراً له على تفرغه لأحوال الأمة، فبقي من هذا المال عنده بصفته أميراً للمؤمنين عبد، وبعير، وجرد قطيفة لمسمى الوظيفة، فردها لـ عمر رضي الله عنه.
فلما جاءت بها عائشة بكى عمر رضي الله عنه، وقال: لقد أتعبت من بعدك يا أبا بكر، ثم أخذها لبيت المال، فقال له عبد الرحمن بن عوف:(أتسلب عبداً حبشياً، وبعيراً ناضحاً، وجرد قطيفة لا تساوي خمسة آلاف درهم آل أبي بكر؟ قال: فما القول عندك؟ قال تردها عليهم، قال: والله لا يكون ذلك في ولايتي، ولا يبرأ منها أبو بكر قبل موته، وأردها عليه بعد موته)! وفي رواية أخرى أيضاً أن أبا بكر رضي الله عنه قال: (إن عمر رضي الله عنه لم يزل بي حتى أخذت من مال المسلمين) يعني بذلك أول ولايته، وذلك عندما أراد أبو بكر أن يمضي لعمله ليأكل قوت يومه، فقال له عمر: إلى أين؟ قال: إلى عملي، قال: وأمر المسلمين، ارجع ونكفيك من مال المسلمين بأن تأخذ قوت يومك وطعام أهلك، فيقول:(فإن عمر لم يزل بي حتى أخذت من مال المسلمين، وإنها ستة آلاف درهم -أي: في مدة خلافته- وإن بستاني وحائطي في مكان كذا يفي بها -يعني: يسدد قيمتها- فردوها على المسلمين، فلما جاءت لـ عمر رضي الله عنه، بكى مرة أخرى وقال: أما هذه فأنا ولي أمر المسلمين، وأردها على عيال أبي بكر، فهي حق لهم)!