للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأسس التي تبنى عليها الوقاية]

ولنا وقفة هنا مهمة عند أسس الوقاية، وكيف تبنى هذه الوقاية؟ أو كيف بنيت في المنهج الإسلامي والقرآني؟ لأن من المهم أن نعرف ذلك لانعكاسه على فهمنا وعلى ما يترتب على ذلك من التصور والعمل: أولاً: أساس العلم؛ فعلى سبيل المثال: هذه الحملات الطبية لا تقوم على التحذير من شيء إلا بعد العلم بخطره وضرره، فهي تحذر من شرب الماء غير النقي، أو تحذر من التعرض لأجواء بعينها، أو تطعم الأطفال من أمراض بعينها عند الصغر، فمن أين جاء ذلك؟ جاء من علمهم بأن هذا الأمر سيؤدي إلى كيت وكيت.

فالعلم أولاً هو أساس هذه الوقاية، ونحن وقايتنا ربانية بحمد الله، والله عز وجل هو العالم، كما يقول سبحانه وتعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤].

ولئن ظن أهل الطب أنهم يعلمون عن الإنسان في جسده وأجهزته الهضمية والأجهزة الأخرى فإنهم في الحقيقة حتى الآن لا يعلمون من ذلك إلا قليلاً، ومع ذلك فإنهم يجهلون الكثير والكثير من حالة الإنسان العقلية والنفسية، والله عز وجل الذي شرع لنا الشرائع وأكرمنا بالإيمان وأعزنا بالإسلام هو العالم بما يصلح لهذه النفوس، وما يداوي تلك القلوب، وما يرشد تلك العقول، وما يقوم السلوك، وما تقع به المودة ويحصل به الوئام بين الناس، وهذا كله من رحمة الله عز وجل بنا.

وأيضاً من العلم الذي تؤسس عليه الوقاية: العلم بمآلات الأمور، فإن الأطباء يعلمون أن هذه الأمراض تؤدي إلى الوفاة، وأنها تؤدي إلى كيت وكيت، وأنها تستنزف من الأموال في العلاج كذا وكذا، وبالتالي فإن كل خطر يعرفونه يجعلون الوقاية بقدره، فإذا كان الخطر عظيماً وجسيماً ونتائجه في غاية الضرر فإن الوقاية أو التحذير منه تكون خطيرة، كما نرى التحذير اليوم مشدداً ومؤكداً من المخدرات؛ لأنها تلف للعقول، وإنهاك للأبدان، وضياع للأموال، واختلال للأمن، وانتهاك للأعراض؛ ولأنها بلية البلايا ورزية الرزايا، فيكون التحذير مناسباً لما يئول إليه الأمر، كما قال الله عز وجل: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:٧٣].

فكل شيء من شرع الله فيه الترك أو الهجر فإنما شرع حتى لا تكون العاقبة فتنة واختلالاً، ففي الاقتصاد طبقيات، وفي الاقتصاد تضخم، وفي الاقتصاد بطالة؛ وكل هذا نتيجة تنكب شرع الله عز وجل، وفي كثير من المجتمعات انحلال وشذوذ وخراب ونحو ذلك؛ وكل ذلك نتيجة لتنكب أمر الله سبحانه وتعالى، كما أخبر الحق جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:١٢٤]، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، فتأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم! وانظر الواقع الذي يحيط بك من حولك ترى أن مخالفة الأمر الأول وقع بسببه الفتنة والفساد الكبير، نسأل الله عز وجل السلامة.

والأساس الثاني للوقاية هو الرحمة: فإن الأطباء إنما يحذرون ويقومون بالتوعية ويفعلون أسباب الوقاية رحمة بهذا الإنسان أن يقع فريسة المرض، ويعجز حينئذ الطب عن علاجه، وإذا به يضمر كالزهرة الذابلة شيئاً فشيئاً، ثم يفترسه ذلك المرض العضال فيمصه مصاً حتى يموت، وهذه الرحمة في الذين يتقدمون بالحلول لعلاج مشكلات المجتمع أمر لازم؛ ولذلك عندما تنزع الرحمة نرى ما يفعله من يدعون التحضر والتقدم والحضارة والإنسانية وحقوق الإنسان عندما يجربون الأدوية والأمصال الحديثة في الإنسان، ولكن أي إنسان؟ إنه إنسان أفريقيا المسكين، أو الإنسان المسلم، أو يفعلون تجارب على الأسلحة في بعض هذه المواجهات التي يفعلونها هنا وهناك، فأولئك قوم تجردوا من الرحمة، وأولئك قوم عندهم من الغطرسة والغرور ما أعمى بصائرهم عن كل معاني الإنسانية التي يدعونها، والحديث في هذا يطول، والأمثلة كثيرة، والشواهد شهد بها لسان القوم، والحق ما شهدت به الأعداء.

والله عز وجل هو أرحم بعباده من كل الناس، بل هو سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، ولذلك نجد أن رحمة الله عز وجل كانت في إرسال الرسل، وفي إنزال الكتب، وفي الهداية التي ساقها إلى الناس؛ ليستنقذهم من الظلمات إلى النور، وليستنقذهم من الهلاك إلى الأمن والسلام.

ورحمة الله عز وجل ساقها لنا في هذا القرآن العظيم، وأكرمنا بها في بعثة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، إنها رحمة ليس بعدها رحمة، وإنها نعمة ليس بعدها نعمة؛ حيث سهل الله عز وجل لنا ذلك؛ لأن الله عز وجل رحيم بعباده، ولا يرضى لعباده الكفر، والله سبحانه وتعالى لا يريد للخلق إلا الخير والرحمة، وإنما يتنكب الناس الصراط بقدر الله عز وجل ولحكمته البالغة.

ونرى قوله جل وعلا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:١٥٦] ورحمتي وسعت كل شيء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن رب العزة والجلال: (سبقت رحمتي غضبي)، ورأى المصطفى صلى الله عليه وسلم امرأة تضم ولدها الرضيع إلى صدرها فقال: (أرأيتم هذه ملقية بولدها في النار؟ قالوا: هي أرحم به من ذلك، قال: فالله أرحم بكم من هذه على ولدها).

الأساس الثالث: التجرد والاستغناء: فإن الذي يريد أن يأخذ مبدأ الوقاية لابد أن يكون متجرداً؛ لأنه إن كان هو في ذاته صاحب مصلحة في أمر فإنه يغلب مصلحته ويترك الوقاية، فمثلاً: انظر إلى شأن التدخين، لقد أثبتت الأبحاث الطبية أنه السبب المباشر لـ (٨٠%) من الذين يصابون بأمراض تصلب الشرايين وأمراض السرطان، نسأل الله عز وجل السلامة، فماذا يفعل أولئك الذين أثبتوا بأبحاثهم أن هذا البلاء موجود في هذا الدخان؟! وهل تراهم تآزروا حتى يمنعوه، أو تناصروا حتى يوقفوه؟! إنهم يكتبون كلمات: التدخين يضر بصحتك، ننصحك بالامتناع عنه، ويدفعون الأموال ليعوضوا بعض من تضرروا، وكأنهم يقولون: نحن لا نعرف إلا الدولار والدينار، ونحن لا يهمنا إلا ما يدخل إلى الجيوب من مئات الآلاف، وأما السلامة والوقاية والبيئة فتحت الأقدام.

وانظر إلى ما يقال من تخفيض نسب التدخين في البلاد الغربية والأوروبية بنسب كبيرة ورفعه بنسب عظيمة في آسيا وأفريقيا، وهذا يدلنا على أن أصحاب المصالح لا يمكن أبداً أن يكونوا أصحاب منهج يقدمون للناس فيه الخير ويمنعونهم من الشر، ونحن أكرمنا الله عز وجل بشرعه الذي شرع لنا، فهو سبحانه الذي أنزل الإيمان، وهو الذي أنزل القرآن، وهو سبحانه وتعالى الغني عن الناس، الصمد الذي لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين، وقال عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:١ - ٢] أي: الذي تصمد إليه الناس في حوائجها، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:١٥].

فالله جل وعلا يريد بالناس الخير، وهو سبحانه وتعالى أعظم وأجل من أن يكون له صلة بنفع أو ضر من هؤلاء الخلق، بل هو النافع سبحانه وتعالى وهو الضار، ولذلك منهجنا وديننا من الله عز وجل لا من البشر فلا تتنازعه الأهواء، ولا تتجاذبه المصالح كما هو واقع في دنيا الناس اليوم، فنسأل الله عز وجل لنا ولكم الوقاية والسلامة والحماية، وأن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا وأخلاقنا.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.