[من دروس الهجرة: التميز والاستعلاء لا التميع والاستخذاء]
أمر ثان: التميز والاستعلاء لا التميع والاستخذاء: المسلمون في مكة المكرمة كانوا على إيمان في مجتمع كفر، وكانوا على خلق وفضيلة في مجتمع فسق وعهر، كانوا على توحيد في بيئة كفر وشرك، فهل سايروا القوم؟ وهل قالوا: لا قدرة لنا على أن نكون وحدنا شاذين؟ هل قالوا: لا بد أن نراعي الواقع ومقصودهم في هذه المراعاة المجاراة وليست المداراة؟ هل رأينا أو سمعنا في تلك الفترة رغم شدتها وهولها وقسوتها من ارتد عن دينه؟ أم سمعنا ما هو معلوم من قصة بلال الحبشي وهو يصدع في أجواء مكة: أحدٌ أحد، وقصة مصعب بن عمير، وقد منعت عنه الأموال فقاطعته الأم الرءوف وضغطت عليه فما لانت له قناة، ولا تغير له موقف؟ بقي أهل الإيمان متميزين بإيمانهم، مستمسكين بإسلامهم، لم ينجرفوا مع التيار، لم يسيروا ويوافقوا الناس، لم يقولوا: لا نستطيع؛ لأن قضية الإيمان والاعتقاد وثوابت الدين تهون لأجلها الأرواح والدماء، فكيف يكون ذلك التغير أو التبدل؟! ثم ما الذي أخرجهم في هجرتهم؟ إنما أخرجهم أنهم يريدون أن يكونوا مسلمين في كل شيء، أن يطبقوا إسلامهم في القضاء وفي الحكم وفي العلاقات والمعاملات الاجتماعية، لما كانوا في بلاد الكفر ما كانوا يستطيعون إلا أن يقيموا إيمانهم وإسلامهم في ذوات أنفسهم، فأرادوا أن يميزوا أمتهم ومجتمعهم بكل شرائع الإسلام، بكل محاسنه وخصائصه، فكانت هجرتهم ليقيموا الإسلام كاملاً في مجتمع بكل فئاته وطبقاته، وبكل ميادين حياته ومعاملاته، وذلكم هو الذي كان وراء هجرتهم الأولى والثانية إلى الحبشة.
لم يكونوا هاربين أو خائفين، لم يكونوا منسحبين أو متخاذلين، حاشا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا كذلك، وإنما كانوا لدعوتهم ولطريقها ملتمسين؛ ولإقامة شريعتهم في كل جوانب حياتهم مبتغين، وذلك الذي ينبغي أن تدركه الأمة اليوم، صبغتهم صبغة أمة إيمان وإسلام، أرادوا أن تظهر في كل شيء بدءاً من أعماق قلوبهم وعقيدتهم المستكنة في نفوسهم، ومروراً بعبادتهم وفرائضهم وشرائعهم، ينشرونها في المساجد التي ينادى فيها للصلاة، ويقيمونها في كل الأحكام التي أقاموها حتى أقام النبي صلى الله عليه وسلم فريضة الحج على هدى الإسلام، وأبطل معالم الجاهلية كلها؛ حينئذ أكمل عليه الصلاة والسلام كل جوانب الحياة في نموذج متكامل.
وما هي صبغة الأمة اليوم؟ إنها مستهدفة استهدافاً عظيماً بدءاً من العقيدة والإيمان، حيث يشكك اليوم في شرائع ثابتة قاطعة وأحكام منصوص عليها بآيات واضحة الدلالة وسنة واضحة المقصد، ثم بعد ذلك تمسخ الهوية حتى نتكلم بلسان غير لساننا ونفكر بعقل غير عقولنا، فما ترون اليوم ما تصنعه وسائل الإعلام: برنامج ينقل لنا حياة من فرنسا، وآخر ينقل لنا صبغة من بريطانيا، وثالث يترجم لنا واقعاً من أمريكا! وكلها كأنما تقول: كونوا على غير ما أنتم عليه، لا يكون لكم لون مميز ولا طعم معروف ولا رائحة مخصصة، كونوا همجاً رعاعاً تتبعون كل ناعق.
إنهم يمسخون الهوية في كل جزء من جزئياتها حتى تتعلق القلوب بغير أهل الإيمان والإسلام، فيكونون هم القدوة وهم الأسوة وهم الذين ينظر إليهم بالإعجاب، وهم الذين تسري خلائقهم وسلائقهم في مجتمعنا حتى لا يعود لنا شيء نتميز به.
أفلسنا نرى ونسمع ويدور الحديث ويعظم على هذه الأمور المخزية الفاضحة التي لا تنم إلا عن مقاصد سيئة، وإلا عن إرادة للإفساد وانحلال للأخلاق وانحراف في الأفكار، وتميع الأمة وذهاب شخصيتها في كل جوانب حياتها؟ وذلكم أمر تحتاج الأمة فيه إلى مفاصلة؛ لأنها اليوم يراد منها أو يكثر الحديث في بيئاتها ومجتمعاتها: أن تطور -أو في حقيقة الأمر- تغير مناهج تعليمها وتحدث وسائل إعلامها وتطور نظم حياتها الاجتماعية، يقولون لنا: لماذا أنتم منغلقون؟! لماذا لا يختلط نساؤكم برجالكم؟! لماذا والبشرية كلها قد أخذت بهذا؟! فهل يكون الحق ما عليه الكثرة وإن كانت مبطلة مفسدة، والكثرة في كتاب الله مذكورة في الجملة في سياق الذم:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}[الأنعام:١١٦]، {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}[المائدة:٤٩]، إلى غير ذلك مما تعلمون.
فينبغي لنا أن ندرك محوراً ومفصلاً عظيماً في حياتنا هو: تميزنا بصبغتنا وانفتاحنا على واقعنا من دون أن نذوب ومن دون أن نتغير فتنسلخ جلودنا، لن نكون يوماً أصحاب عيون زرقاء وبشرة بيضاء لنكون مثل ذلك الغربي أو ذلك الشرقي، فضلاً عن أن تكون قلوبنا وعقائدنا وإيماننا وهوانا وأمنياتنا وطموحاتنا على ما يعملون له ويروجون.