للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قمة في طلب العلم]

هذه قمة أخرى تتعلق بالعلم وطلبه، والتعلق به، والتفرغ له، وإنفاق الأوقات في تحصيله حتى بلغوا العجب العجاب في مثل هذه الميادين، وحتى حفظ العلماء منهم ليس العشرات ولا المئات ولا الآلاف، بل مئات الآلاف من الأحاديث والروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى بلغوا الغاية في دقة الحفظ وتجويده، والتفرغ للعلم والتعلق به، ولسنا بصدد ذكر ما يتعلق بالحفظ والعلوم وإن كان هذا باباً واسعاً، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله سئل عن الحافظ هل يسمى حافظاً إذا حفظ مائة ألف؟ قال: لا، قالوا: مائتي ألف؟ قال: لا، حتى بلغوا أربعمائة ألف؟ قال، لا، قالوا: خمسمائة ألف؟ قال: لعله.

أي: لعله أن يكون حافظاً أو يسمى حافظاً.

وكان عند الإمام أحمد مائتا جراب كلها فيها نسخ من الأحاديث عن سفيان بن عيينة وليس فيها رواية، فكانوا يخرجونها له، فكان يعرف كل حديث منها، ويقول: هذا حدثني به فلان عن سفيان، وكلها عن سفيان، لكنه يحفظ إسناده لها عن سفيان ويميز بينها مع كثرتها، وكانوا يحفظون من العلوم والأحاديث واللغة - كما قلنا- ما لا تبلغه عقولنا تصوراً؛ لقلة هممنا وضعف عزائمنا في مثل هذه الأبواب، ولكني أذكر شيئاً مما يتعلق بتعلقهم بالعلم، وعظيم ارتباطهم به في صور وأحوال شتى، فهذا أبو علي الفارسي الحسن بن أحمد الفسوي الذي كانت وفاته سنة سبع وسبعين وثلاثمائة للهجرة: وقع حريق ببغداد، فذهب به جميع علم البصريين، واحترقت كثير من كتبهم، قال هذا: وكنت كتبت ذلك كله بخطي، وقرأته على أصحابنا، فلم أجد من الصندوق الذي احترق شيئاً البتة، إلا نصف كتاب الطلاق عن محمد بن الحسن، قال: سألته عن سلوته وعزائه.

يعني: ما الذي حصل له عندما احترقت كتبه؟ واليوم ربما نجد بعض الطلاب بعد الاختبارات يمزقون الكتب بأنفسهم، أو يرمونها في الطرقات، وكأنها لا قيمة لها عندهم، بل هي في الحقيقة لا قيمة لها عندهم، قال: سألته عن سلوته وعزائه في هذا، فنظر إلي عجباً، فقال: بقيت شهرين لا أكلم أحداً حزناً وهماً، وانحدرت إلى البصرة لغلبة الفكر علي، وأقمت فيها مدةً ذاهلاً متحيراً.

من شدة حزنه كأنما فقد ابناً من أبنائه، وكما قال القائل: وفقد الكتاب كفقد الصواب فيا هول من قد أضاع الكتب وهذا لعل فيه تذكرة لطلبة العلم أن يحافظوا على كتبهم.

وهذا ابن جرير إمام من أئمة العلماء المشهورين، وصاحب التفسير والتاريخ، وصاحب الكتب العظيمة كتهذيب الآثار وغيره؛ الذي نعلم من علمه أنه قال: تنهضون لكتابة التاريخ؟ قالوا: كم يكون؟ قال: يكون ثلاثين ألف صفحة، قالوا: إن ذلك أمر تفنى فيه الأعمار، وتعجز عن مناظرته الأبصار، فلما رأى ضعف همتهم، اختصره في ثلاثة آلاف، وهذه الثلاثة آلاف هي تاريخ الطبري الذي بين أيدينا مطبوعة في نحو ستة أو سبعة مجلدات، هذا المختصر الذي اختصره لهم؛ لأنهم كانت همتهم ضعيفة في زمنه، هذا ابن جرير يروي عن نفسه ما قلت.

سنذكر بعض ما يتعلق بطلب العلم من القصص، وتعلقهم به، يقول ابن جرير: مضيت يوماً إلى النخاسين الذين يبيعون الإماء والرقيق في طريقي، ورأيت جارية تعرض للبيع، حسنة الصورة كاملة الوصف، قال: فوقعت في قلبي، ثم مضيت إلى دار أمير المؤمنين الراضي بالله، فقال لي: أين كنت الساعة؟ فعرفته- بالخبر- فأمر بعض أسبابه-أي: غلمانه- فمضى فاشتراها وحملها إلى منزلي، فجئت فوجدتها، فعلمت الأمر كيف جرى، فقلت لها: كوني فوق- حتى يتبين براءة رحمها من الحمل -قال: وكنت أطلب مسألةً من العلم، فإذا بها قد اختلت علي- تشوش فكره- فاشتغل قلبي عن علمي، فقلت للخادم: خذها وامض بها إلى النخاسين، فليس قدرها أن تشغل قلبي عن علمي، فأخذها فقالت له: دعني أكلمه بحرفين، فقالت: أنت رجل لك محل وعقل، وإذا أخرجتني ولم تبين ذنبي لم آمن أن يظن الناس بي ظناً قبيحاً، فعرفني ذنبي قبل أن تخرجني، فقال لها: ما لك عندي عيب غير أنك شغلتيني عن علمي، فقالت: هذا أسهل عندي.

بالنسبة لها هذا أمر سهل؛ لأنها ليست تعرف مثل هذه الأمور ولا مثل هذه المسائل.

ومن لطيف ما يذكر من تعلقهم بالعلم وحرصهم عليه: أن أبا عبيد القاسم بن سلام الإمام الشهير كان يفكر في مسألة؛ فأقضت مضجعه طوال ليله فلم ينم، فكلما اضطجع قام، حتى إذا فتح له فيها قام يقفز ويصيح فرحاً بها، وما زال كذلك حتى أصبح.

من شدة فرحهم بمسألة من مسائل العلم تفتح عليهم، أو أمر يتصل بهم في مثل هذا، وكانوا يعرفون للعلم قدره ومنزلته، وأنا كما ذكرت سأشير إلى ما يتعلق بالعلم من جوانب ليست هي من صلب العلم؛ لأن صلب العلم لو تحدثنا عنه لكان الأمر يطول بنا وهو أمر قد سلمنا فيه بعجزنا، ولكن أذكر بعض الملح التي تبين ما هو أعظم من مجرد الحفظ والعلم، وشدة تعلقهم به وكونه هو مدار حياتهم.

فهذا الحافظ ابن عساكر يروي هذه الرواية يقول: سمعت ابن الأكفاني يحكي عن بعض مشايخه أن أبا الحسن بن داود كان إمام داريا- منطقة قريبة من دمشق- فمات إمام جامع دمشق، فخرج أهل البلد إلى داريا ليأتوا به- أي ليكون إماماً بعد الإمام الذي مات، فماذا صنع أهل داريا؟ - قال: فلبس أهل داريا السلاح، وقالوا: لا نمكنكم من أخذ إمامنا، فقال أبو محمد عبد الرحمن بن نصر وكان رجلاً حكيماً: يا أهل داريا، ألا ترضون أن يسمع في البلاد أن أهل دمشق احتاجوا إلى إمامكم، هذا فخر عظيم أن أهل دمشق جاءوا يطلبون إمامكم، وافتقروا إليه، فقالوا: قد رضينا، وهذه صورة من صور المجتمع الذي كان يعيش فيه أولئك القوم في سير وأماكن وتواريخ مختلفة.

ومن ذلك أيضاً: الضنك والعناء الذي لقيه بعضهم في تحصيل العلم، وهذا باب واسع عظيم قد أفرده بعض المعاصرين بالتصنيف، فأفرد فيه كتاباً هو من نفائس الكتب المعاصرة التي ينبغي لطالب العلم أن يقرأ فيها، وأن يحرص على اقتنائها، وهو صفحات من صبر العلماء على تحصيل العلم وشدائده للشيخ عبد الفتاح أبو غدة حفظه الله، من ذلك قصة المحمدين الثلاثة، وقد أوردها الذهبي في السير، وهم: محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي، وهؤلاء كل واحد منهم إمام كبير من أعظم وأشهر الأئمة والعلماء، هؤلاء الثلاثة توافقوا في طلب العلم، حتى أرملوا وافتقروا، ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع حتى كادوا أن يهلكوا، فماذا صنعوا؟ اجتمعوا ليلةً في المنزل الذي كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل الناس لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الاستخارة، وبينما هو في أثناء الصلاة إذا بالشموع ورجل من قبل والي مصر أحمد بن طولون يدق عليهم الباب، ففتحوا، فنزل عن دابته، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقالوا: هو ذا.

وأشاروا إليه، فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ قالوا: هذا.

فأخرج صرةً فيها خمسون دينار وأعطاها إياه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق؟ قال: هو ذا يصلي، فلما فرغ من صلاته دفع إليه صرةً فيها خمسون دينار، ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ وكان رابعاً لهم أيضاً، فقيل: هو ذا، فدفع إليه مثلها، ثم قال: إن الأمير كان قائلاً بالأمس -نائم في وقت الظهر- فرأى في المنام قائلاً يقول: إن المحامد -أي المحمدين هؤلاء- طووا كشحاً جياعاً فأنفذ إليهم هذه الصرر، وهو يقسم عليكم إذا نفذت أن تبعثوا إليه ليزيدكم، فهذا أيضاً مشهد أو صورة من هذه الصور الكثيرة.