يقول الغزالي رحمه الله:(النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحداً، وهي حالة وصفة للقلب يكتنفها أمران: علم وعمل، العلم يقدمه لأنه أصله وشرطه، والعمل يتبعه لأنه ثمرته وفرعه، وكل عمل لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم، وإرادة، وقدرة، لأنه لا يريد الإنسان ما لا يعلمه، فلابد وأن يعلم، ولا يعلم ما لم يرد، فلابد له من إرادة، ومعنى الإرادة: انبعاث القلب إلى ما يراه موافقاً للغرض إما في الحال وإما في المآل).
ذلك فهم دقيق، إن خفايا النفوس والقلوب تكمن في هذا الأمر، فإن صدق الإيمان، ورسخ اليقين، وخلصت النية، وجدت الهمة والعزيمة المرتبطة بالغاية الصحيحة، وهي رضوان الله عز وجل، والمؤسسة على العلم الصحيح من كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ اكتملت أسباب المسيرة الصحيحة بهمتها العالية، وعزيمتها الماضية، ومنهجيتها الواضحة، كما كان على ذلك رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام.
نحن نرى في سيرهم، وفي سير كل المؤمنين إلى عصرنا هذا فكيف نرى الشوق إلى طاعة الله، كيف نرى الصبر والثبات على دين الله، كيف نرى الهمة والعزيمة في طاعة الله، أين وقود ذلك؟ إنه هذه المشاعر الإيمانية التي مبعثها القلب، بدءاًً من همة تتوجه نحو الله عز وجل ورضوانه، وإرادة تريد الإقدام في إنفاذ الأمر واجتناب النهي، حتى يكون لنا ذلك السمت الذي يتقدم ولا يتأخر ولا ينقص، ونسأل الله أن يعيننا عليه، والإنسان قد يصاب بالعجز إذا ضعف يقينه، ولكنه إذا تعلقت نفسه وأيقنت بمقابلة ربها في الآخرة اختلف الأمر.
كيف تنفق المال وتتخلى عنه إذا عظم يقينك بأنك تلقاه يوم القيامة أضعافاً مضاعفة؟! كيف تترك راحتك وتقوم ليلك وتضني جسدك إذا علمت أن ذلك يكون لك خيراً في دنياك وأخراك؟! إذا عرفت الأجور والثواب، إذا عرفت البركة والتوفيق، إذا عرفت الهدى والتسديد، إذا عرفت كل هذه الثمرات تحركت همتك وانبعثت، ولذلك ينبغي لنا أن نعلق القلوب بالآخرة حتى نصل إلى مرتبة الإيمان كما كان الصحابة، لقد جادوا بأنفسهم وأرواحهم طلباً لحياة خالدة لا تنقطع، تركوا نعيم الدنيا لنعيم لا ينفذ.
وكان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يبيت اليوم واليومين والثلاثة ولا يوقد في بيته نار، وكان لو شاء لدعا أن يحيل الله له الصفا والمروة ذهباً، ولكنه قال: آكل يوماً وأجوع يوماً؛ لأن ما عند الله أعظم، {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) [النحل:٩٦]، يوم نحرر هذه المعادلة تحريراً علمياً ونترجمها إلى شعور نفسي يستولي على القلب والنفس، فحينئذٍ يكون انطلاق عظيم بإذن الله سبحانه وتعالى.
ثم ننظر كذلك إلى أمر الدعاء والاستعانة بالله عز وجل، فإن الإنسان ليس له من أمر يحققه إلا بعون الله عز وجل: إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده