[محفزات التوبة]
قال ابن القيم وغيره من العلماء: التوبة النصوح تتضمن ثلاثة أمور: الأول: أن تكون توبة عامة من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، قديمها وحديثها، ما يتعلق بالعبد ونفسه والعبد والآخرين، وإننا نعلم أن العمل الذي نقدم عليه ويكون علينا فيه مؤاخذة كثير، ربما ندرك بعضه ولا ندرك بعضه الآخر، ومن ثم جاء دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في استغفاره وفي دعواته يعلمنا هذا: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه)، وعندما كان يستغفر ذنبه كان يستغفره كله سره وجهره، علانيته وباطنه، ما علمت منه وما لم أعلم، كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام.
الثاني: إجماع العزم: فلا تردد ولا توانٍ، أما من ترك المعصية وأقبل على التوبة حفاظاً على صحته، أو حفاظاً على سمعته، وهو متعلق بتلك المعصية ولو كان يأمن على سمعته أو صحته أو منزلته أو نحو ذلك لقارفها، فمثل هذا ما صدقت توبته، ولا نصح لله عز وجل في أوبته، ولذلك ينبغي أن نتأمل أن التوبة معانيها القلبية هي التي ينبغي مراعاتها، وهي التي ينبغي الحرص عليها، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب في اليوم مائة مرة).
وإذا أراد الإنسان أن يتشجع على هذه التوبة فعليه أن يعلم أن الله سيغفر له ذنبه، ويستر عيبه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا سألنا الله ودعوناه أن نوقن بالإجابة، وقد نهانا عن تعليق الدعاء بالمشيئة؛ لأن الله عز وجل لا يتعاظمه شيء، ولا يرد أمره شيء سبحانه وتعالى، ألم تستمع لقول الحق جل وعلا: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ} [آل عمران:١٣٥ - ١٣٦]، أليس هذا وعد من الله؟ ووعد الله عز وجل -قطعاً- لا يتخلف.
إن تذكرت الله، وإن حل في قلبك الندم على معصية الله، وإن وجد في نفسك العزم على طاعة الله فهذه المعاني الإيمانية التعبدية كفيلة بأن يمحو الله عز وجل لأجلها ذنبك، وقد قال الله جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:٨٢].
ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المغفرة من الله واقعة لا محالة.
هذا أولاً، ومن الأمور التي تشد العبد إلى التوبة وتربطه بها؛ ذلكم أن الله عز وجل يحب التائبين المستغفرين، وقد قال في كتابه بالتوكيد: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:٢٢٢]؛ فالتواب الذي يئوب ويرجع ويعترف بين يدي الله عز وجل بذنبه محبوب عند الله عز وجل.
وقد ورد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم حمل على دابته متاعه في أرض فلاة، فضلت عنه، فبحث عنها فلم يجدها، فاستظل تحت ظل شجرة ينتظر الموت وقد أيس من دابته، فلما استيقظ وجدها وعليها متاعه، ففرح وأخطأ من شد الفرح، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، فالله عز وجل أشد فرحاً من فرحة هذا العبد الذي انقطعت عنه أسباب النجاة.
يفرح الله بتوبة التائبين؛ لأنها عربون وشهادة على عبودية أولئك التأبين؛ ولأن فيها خاتم الذل لله رب العالمين؛ وبصمة السجود والبكاء والتضرع والخضوع لرب الأرباب وملك الملوك سبحانه وتعالى.
ثالثاً: استمرارية فتح باب القبول من الله عز وجل، فإنه (يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها)، فأي باب أوسع من هذا؟ وأي رحمة أعظم من هذا؟ وأي توبة أوسع من هذا؟ إن هذا مما يجعل العبد يتهيج لطاعة الله، ويداوم على التوبة والاستغفار لله سبحانه وتعالى.
وقد ورد في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، فالذي ينتبه لهذا يدرك أهمية التوبة.
رابعاً: من الأمور التي تحفز المرء على التوبة معرفته لخطر الذنوب وآثارها، فإنه إذا تفطن لهذا علم أن أعظم البلاء، وأكبر المصائب إنما تحل عليه من أثر الذنوب والمعاصي.
إن الفقه الإيماني الذي كان عليه أسلافنا يربط كل شيء من فلاح ونجاح وتوفيق بالطاعات، ويربط كل شيء من إخفاق وفشل وعناء وبلاء بالمعاصي؛ حتى قال قائلهم: (إني لأجد أثر الذنب في خلق دابتي وزوجتي)، فإذا فقهنا ذلك علمنا لم عندنا الأموال، لكنها ممحوقة البركة؟ ولم عندنا الأبناء، لكننا فقدنا برهم وفقدنا كثيراً من خيرهم؟ ولم عندنا كذا وكذا ولكننا لا نجد أثر التوفيق فيه؟ لو فقهنا ذلك لعلمنا أنه من آثار تراكم المعاصي والذنوب التي نقترفها سواء أكنا مدركين لذلك أو غير مدركين، والطبع على القلب أسوأ آثار هذه الذنوب: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين:١٤]، قال بعض السلف من المفسرين: (هو الذنب بعد الذنب)، وقال آخر: (هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب) والعياذ بالله.
وإفساد العقل أيضاً من الآثار، فإن العقل نور وضياء، والمعصية ظلمة تطفئ نور العقل فيضل -والعياذ بالله- والتهاون بالمعصية من أثر هذه الذنوب، والتكاثر لها بتواردها واستمرارها من أثر هذه الذنوب، وذهاب الحياء من الله قاصمة الظهور في هذا الباب، وينتج عن أثر ذلك نسيان الله عز وجل للعبد وتركه، فلا يدافع عنه كما وعد: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:٣٨]، ولا يتولاه برعايته كما قال عز وجل: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} [الأعراف:١٩٦]، هذه كلها يفقدها العبد عندما لا يدرك خطر الذنوب والمعاصي ويفيء إلى التوبة.
ألا أيها المستطرف الذنب جاهداً هو الله لا تخفى عليه السرائر فإن كنت لم تعرفه حين عصيته فإن الذي لا يعرف الله كافر وإن كنت عن علم ومعرفة به عصيت فأنت المستهين المجاهر فأية حاليك اعتقدت فإنه عليم بما تطوى عليه الضمائر فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا من التائبين المستغفرين، وأن يجعلنا من المقرين بذنوبنا المعترفين بتقصيرنا، المبادرين إلى الاستغفار والتوبة، والعازمين على الاستمرار على الاستقامة والطاعة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.