حينما نتأمل في هذا الحج العظيم نجد أنه مؤتمر إسلامي كبير ضخم، فينبغي للأمة أن تستغله بالاستغلال المناسب، ومن أعظم هذا الاستغلال أن تكون في هذا الحج مناقشة الأولويات والمهمات، ليس التركيز على العوارض اليسيرة والقضايا السهلة، فإننا لو تأملنا خطبة النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع نجد هذا المعنى متجسداً، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لما خطب الأمة في ذلك اليوم العظيم والمشهد الحافل ما تحدث عن قضايا صغيرة، وإنما عن القضايا المهمة، وتأمل حديثه عليه الصلاة والسلام كما ورد في الصحيحين من حديث أبي بكر رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما، قال أبو بكر:(خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.
ثم قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى.
قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة الحرام؟ قلنا: بلى.
قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ ثم قال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) فتحدث عن حرمة المسلم بهذا الأسلوب العظيم؛ لأن من أعظم القضايا والمهمات في حياة الأمة المسلمة أن يرعي المسلمون حرمة بعضهم، وأن يقاتلوا من ينتهك هذه الحرمة من أعداء الله سبحانه وتعالى، ولذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث وهذه الخطبة:(وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً أو ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم.
قال: اللهم! فاشهد) وفي بعض الروايات في مسند الإمام أحمد أنه عليه الصلاة والسلام قال في هذه الخطبة: (اسمعوا مني تعوا: ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس، ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكنه رضي في التحريش بينكم، واتقوا الله في النساء؛ فإنهن عندكم عوان -يعني: أسيرات- لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإن لهن عليكم حقاً ولكم عليهن حقاً، وحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً غيركم، ولا يأذنَّ في بيوتكم لأحد تكرهونه) إلى آخر ما قال، ثم قال:(يا أيها الناس! إن ربكم واحد وأباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى) وقال في رواية عند الطبراني: (وأُحَدِّثكُم من المسلم؟ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأُحدِّثكم من المؤمن؟ المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، وأُحدِّثكم من المهاجر؟ المهاجر من هجر السيئات، والمؤمن حرام على المؤمن كحرمة هذا اليوم، لحمه عليه حرام أن يأكله بالغيبة يغتابه، وعرضه عليه حرام أن يظلمه، وزاده عليه حرام أن يدفعه دفعاً، وأذاه عليه حرام أن يدفعه دفعاً).
وفي روايات أخرى يقول:(كل رباً من ربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضعه ربا العباس بن عبد المطلب) ناقش النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة القضايا الكلية للأمة المسلمة.
وهذا الحج بهذا الحشد الجامع والمؤتمر العظيم فيه هو -أيضاً- مقياس لنبض هذه الأمة، فإذا رأيناها قد التفتت فيه إلى مهمات الأمور وناقشت كبريات القضايا، وكذلك ظهر فيها العلم والوعي، وظهر في سلوكياتها الرحمة والتآلف، وظهر من سلوكياتها الوحدة والقوة فهذا مؤشر بأن الحجاج نموذج متكامل للأمة المسلمة مع اختلاف البلاد أو اللغات أو مستويات التعليم أو غير ذلك.