السمة الثالثة: السماحة، وهي نوع وأمر يدل على ذلك اليسر، لكنه يظهر في أصول الأمر والتشريعات، كما قال الله سبحانه وتعالى في شأن الأمر الأعظم في حياة الأمة ودورها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:١٢٥]، سماحة في عرض هذا الدين، وفي الدعوة إليه، وفي البيان له، حتى تقتنع به العقول، وتقبل عليه القلوب، وتتعلق به النفوس، وتلتزمه الجوارح، وتتحرك به لإعلانه ونشره والدعوة إليه.
والله سبحانه وتعالى يبين ذلك في قصة موسى عليه السلام مع فرعون، أطغى وأكفر من ذكر الله عز وجل من أولئك الذين خرجوا عن أمر الله سبحانه وتعالى، جاء الأمر إلى موسى وهارون عليهما السلام:{فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}[طه:٤٤]، وليس ذلك اللين عن ضعف أو خوف أو جبن، وليس ذلك اللين مداهنة أو مجاملة أو منافقة، إنما هو القول الجميل، والدعوة إلى الله تعالى بآياته، والتنبيه على حججه كما ذكر ابن كثير في التفسير، إنه أسلوب عرض فيه سماحة، وفيه لين في الأداء ليس في المضمون، وليس اللين أن نغير أحكام الله، ولا أن نبدل دين الله، ولا أن نقول: إن الجهاد قد ألغي أو عطل، ولا أن نقول بأن تعليم شرع الله عز وجل انحراف يؤدي إلى خطر، فإن ذلك ليس ليناً بل هو تحريف وانحراف، كما أن ذلك في جانب فهذا في جانب آخر.
وهذه السماحة عظيمة في كل شرائع الإسلام، حتى الشرائع التي ظاهرها عند بعض من يجهل ويهوى أنها تتناقض مع السماحة، وهي شريعة وفريضة الجهاد القائمة الماضية إلى قيام الساعة.
إنها ليست من القسوة في شيء، إنها ليست دموية ولا إرهابية، إنها سماحة للبشرية، ورحمة للإنسانية، شريعة الجهاد رحمة بالبشر؛ ليخرجوا من الظلمات إلى النور، ومن الظلم إلى العدل، ومن الطبقية والعنصرية إلى المساواة والأخوة الإنسانية والرابطة الإيمانية.
والله سبحانه وتعالى يذكر لنا ذلك، وتبينه شرائع الإسلام، {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[البقرة:٢٥٦] إما أن يسلموا فلهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإما أن يذعنوا لحكم الإسلام ويبقوا على ما هم عليه، ويخضعوا لتشريعات سلطان الإسلام، ويدفعوا الجزية إليه في مقابل ما يلقونه من الخدمة والنصرة، وإما أن يأبوا فمن يأبى النور ومن يأبى الحق ومن يتسلط على رقاب الناس يأتي الإسلام ليحرر الناس التحرير الحقيقي لا المزيف الكاذب، ولينصر النصر الحقيقي لا الكاذب، وذلك أمره بين، والله سبحانه وتعالى قد بين ذلك، وبينته وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في القتال:(لا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً)، ووصية أبي بكر الشهيرة إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه، حتى الشجر والنخل نهى عن عقره وحرقه إن لم يكن له داع وسبب، فليس الجهاد في إزهاق النفوس بلا سبب ولا مصلحة راجحة، ولا موجب لذلك من أولئك الكفرة الفجرة المعادين لأهل الحق والإسلام، بل والمعادين للبشرية والإنسانية.
ونرى ذلك كذلك في أمور أخرى كثيرة، كقوله تعالى:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}[الممتحنة:٨].
وإذا كان ثمة عهد فالآيات:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة:١]، وقال عز وجل:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}[التوبة:٤].
ذلك كله لابد أن نفقهه في إطار جامع واسع، وتلك هي سماحة الإسلام في سمة واضحة من سماته، وصفة جلية من صفاته.
نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يفقهنا في إسلامنا، وأن يلزمنا شرع نبينا، وأن يلزمنا هديه صلى الله عليه وسلم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.