للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حال النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر]

الواقع الذي نسترشد منه والهدي الذي نقتدي به هو هدي رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهذه العشر كانت لها مزية خاصة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روت عائشة في الحديث المشهور قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان أيقظ أهله، وأحيا ليله، وشد المئزر) وهذه الثلاث لا أود أن أطيل في شرحها، لكن كل واحدة منها له جانب فيه دلالة من الدلائل.

فقولها: (أيقظ أهله) فيه إشارة إلى أن الواجب المنوط بكل واحد منا لا يتعلق به وحده، ولا يقتصر عليه وحده، بل يشمل الدائرة الأوسع، وأقربها وأولاها الأهل، فقد ورد عند أبي داود في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله امرأ قام من الليل فأيقظ أهله، فإن لم تستيقظ نضحها بالماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فأيقظت زوجها، فإن لم يستيقظ نضحته بالماء) وذلك دليل على أن الذي يجمع بين الزوجين والذي يجمع بين الأهل إنما هو التواصي بطاعة الله عز وجل والحرص عليها، وهذه مسألة مهمة، وكثيراً ما نرى الرجال يملئون المساجد بالصلوات والاعتكاف، ونرى في الوقت نفسه أبناءهم يملئون الأسواق باللهو والعبث، فأين هم من أبنائهم؟! أو نرى زوجاتهم يملأن الأسواق في أمور لا تحمد، أو في أمور هي دون المطلوب، فأين أزواجهن عنهن؟! وذلك هو ما يشير إليه هذا الحديث التي عبرت فيه عائشة رضي الله عنها عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

وقولها: (وأحيا ليله) قال العلماء: إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحيي ليله منذ بعثته، ومنذ أن نزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:١ - ٢] والنبي عليه الصلاة والسلام عندما أخذ بهذه السنة فهي في حقه فريضة لن يتركها، وكان لا يترك عليه الصلاة والسلام قيام الليل في سفر أو حضر، إلا ما ثبتت به السنة، كليلة مزدلفة وغير ذلك، فما معنى قولها: (أحيا ليله)؟ كان النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان يحيي ليله فصلى بصلاته أناس، وهكذا في الليلة الثانية وفي الليلة الثالثة، ثم لم يخرج إليهم في الليلة الرابعة، وصلى وحده لئلا تفرض عليهم، قال أهل العلم في بيان ذلك -كما أشارت إلى ذلك بعض الروايات-: إنه صلى الله عليه وسلم كان في رمضان وسائر الأيام يخلط ليله قياماً بنوم، فيصلي وينام، لكن في هذه العشر كان لا ينام الليل مطلقاً، وهذه هي المزية، أي أنه كان يحيي الليل كله، وسنته عليه الصلاة والسلام في غير هذه العشر أنه كان ينام ويستيقظ، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من رغب عن سنتي فليس مني) وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، ثم ينام سدسه في آخر الليل قبل الفجر لينشط عليه الصلاة والسلام لصلاة الفجر.

وقولها: (وشد المأزر) شد المأزر هنا كناية تشتمل على أمرين، وذكر العلماء أن أحد هذين الأمرين هو اعتزال النساء اعتزالاً كاملاً، مع أنه في ليل رمضان يجوز مباشرة النساء، كما قال الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:١٨٧] لكن النبي صلى الله عليه وسلم حين اعتكف في المسجد وتفرغ للطاعة والعبادة اعتزل النساء، ومن مبطلات الاعتكاف ومفسداته معاشرة الأزواج، بل حتى ما دون المعاشرة.

ومن جهة أخرى يقال في كلام العرب: شمر عن ساعد الجد أو شمر عن المئزر.

إذا جد واجتهد وبلغ الغاية القصوى في البذل والعمل، وهذا مقصود أيضاً في هذا الباب من أبواب الخير التي ندبنا إليها بفعله رسول الله عليه الصلاة والسلام.