في تلك الأيام تفد الوفود وتلبي النداء جموع من المسلمين من كل بقاع الأرض، إنهم ليسوا من بلد واحد، بل من بلاد شتى، ولا من عرق واحد، بل من أعراق مختلفة، ولا من لغة واحدة، بل من لغات متباينة، إنهم يأتون من كل حدب وصوب، أي شيء يقصدون؟ يقصدون وجه الله، ويتوجهون إلى بيت الله، ويؤدون فريضة الله، لم يأتوا إلى مكة لجمالها أو لخضرتها، لم يأتوا إلى تلك الديار ليأكلوا من طعامها أو شرابها، أو ليسكنوا في دورها وبيوتها، ليس لهم مقصد حرك قلوبهم وهممهم وأضناهم في مشقتهم وسيرهم وسفرهم، وبذلوا في ذلك من أموالهم ومن عرق جبينهم إلا غرض واحد فقط، وهو تعظيم بيت الله وأداء فريضة الله.
وانظر معي -أخي المسلم- إلى التاريخ القرآني تذكره لنا آيات ناطقة شاهدة {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ}[الحج:٢٦].
ذكر أهل التفسير أن هذا الأمر لإبراهيم الخليل عليه السلام فيه دلالة عظيمة على اختصاص هذه البقاع بتوحيد الله سبحانه وتعالى، ونفي الشرك، والأمر بالطهارة العامة، بحيث لا يكون هناك شيء لغير الله، ولا معصية لله، ولا حكم لغير حكم الله، تطهير شامل لهذه البقاع المقدسة والبلاد الطاهرة، فيأتي المسلم من بلاد الإسلام وقد وقع فيها ما وقع من أمور كثيرة واختلالات عظيمة وانحرافات كبيرة يأتي إلى هذه البلاد فيرى قبلة الإسلام ورمز التوحيد، وجموع المسلمين وهي تلبي:(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) ثم يرى في هذه البقاع المقدسة شعائر الإسلام الظاهرة، فقبل أن يؤذن المؤذن تغلق المتاجر أبوابها؛ ليتوجهوا لأداء صلاتهم وفريضة ربهم، فهذا الذي ينبغي أن يراه في هذه البلاد من إعلاء وإعلان شريعة الله التي أمر بها إبراهيم الخليل عليه السلام، وجددها محمد صلى الله عليه وسلم في سلسلة بينهما من رسل الله وأنبيائه، وتأمل الآيات فإن فيها كثيراً من الدلالات {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[الحج:٢٦]، وفي الآيات:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}[الحج:٢٧ - ٢٨].
قال أهل التفسير: أي: من منافع الآخرة والدنيا، يأتون ليغسلوا قلوبهم، ويتطهروا من ذنوبهم، ويجددوا إيمانهم، ويؤكدوا عهدهم وعقدهم على التزام دين ربهم وإعلاء شريعته والتزام أوامره واقتفاء سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال أهل التفسير:((ومن يعظم حرمات الله)) أي: يعظم ما حرم الله فيستعظم ارتكابه، ويجعل في نفسه من الخوف من ذلك والورع عنه والبعد ما يجعله أبعد ما يكون عن مقارفة الإثم أو الإقرار به، أو ارتكاب المعصية أو المخالفة، فضلاً عن المطالبة بشيء مخالف لشرع الله، أو إقامة وإقرار شيء مناقض لشرع الله عز وجل، وذلك ما ينبغي أن يكون خصيصةً لهذه البلاد التي يفد الناس إليها، يريدون أن يروا فيها الإسلام الكامل الذي قد تنتقص بعض صوره في أحوالهم وبيئاتهم.
إننا ينبغي علينا أن ندرك أن قلوب المسلمين قد تعلقت بهذه البلاد، بالحرمين الشريفين، وبصبغة الإسلام الظاهرة، وراية شريعته المعلنة، وإلا فهل تظن أن الذين يقيمون في هذه البلاد لا يريدون إلا رزقها وأجرها؟ إن بعضاً منهم -وهم كثر ليسوا قلة- من أصحاب الشهادات العالية، وبعضهم كانوا يعملون أطباء ومهندسين في بلاد الشرق والغرب في أحسن وأرقى المستويات المعيشية، تركوا ذلك كله خلف ظهورهم، واسأل أحدهم: لم جئت إلى هذه البلاد؟ إنه يريد أن يتنفس هواءً نقياً طاهراً غير ملطخ برجس الآثام والمعاصي، وليس مضللاً بتشريع يناقض شريعة الله، إنهم يقولون لك: قد كبر أبناؤنا وبناتنا، ولا نريد أن يدخلوا في جحيم الاختلاط والتبرج والفسق والفجور.
إنهم يقولون: نريد أن نفيء إلى ظلال نسمع فيها صوت الأذان يدوي خمس مرات ويهرع الناس ويتركون وراءهم دنياهم، ويتركون أعمالهم رسمية وأهلية ليعلنوا مظاهر الإسلام، وهم يرون في بعض بلادهم أن الجمعة تقام وإلى جوار أبواب المساجد من يشربون الدخان، ومن يسمرون ويلعبون ويضحكون، كأنه لا خطيب يسمعون صوته، ولا فريضة يؤدون واجبها، ولذلك نجد أن المسألة في هذا المعنى مهمة جداً.