[حال السلف في العشر الأواخر من رمضان]
الحمد لله جلت عن الوصف عظمته، ووسعت كل شيء رحمته، جعل في شهر رمضان فتحْ أبواب الجنان، وإغلاق أبواب النيران، وخص العشر بليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، أفاض النعم، وضاعف بفضله الحسنات، ومحا بعفوه السيئات، وأفاض بجوده البركات، له الحمد سبحانه وتعالى ملء الأرض والسموات كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً يوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، النبي المصطفى، والرسول المجتبى، علم التقى، ومنار الهدى، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فموضوعنا (العشر الأواخر بين الأوائل والأواخر) نتأمل فيما كانت عليه أحوال أسلافنا، ما الذي كان يشغل عقولهم، وما الذي كان يداعب آمالهم، وما الذي كان يشحذ عزائمهم، وما الذي كان يسهر ليلهم، ويضني نهارهم، ويفطر أقدامهم، ويجعل كأمثال ركب المعزى على جباههم، وما الذي كانوا يملئون به الليالي العشر، وما هي الأحوال في أيامنا هذه.
علنا ندرك أننا في حاجة إلى أن نسترد عقولنا المغيبة، وأن نرجع نفوسنا اللاهية، وأن نحيي قلوبنا الغافلة؛ لأن في أحوالنا من العجائب ما يستدعي النظر في أفعال أصحابها، وهل لهم عقول أو قلوب في صدورهم.
فنريد أن نتأمل هذه الأحوال، وأن نرى بعض تلك المفارقات العجيبة، فنقول: إذا ذهب من رمضان عشرون يوماً يكون قد مضى الثلثان وبقي الثلث، والثلث كثير، وفيه خير وفير، وحسبنا من عشره الأخير أن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والتي تنزل فيها الملائكة بكل أمر، والتي فيها السلام والخير حتى مطلع الفجر.
أليس هذا جديراً وحرياً بأن يكون لنا معه شأن آخر كما كان شأن أسلافنا، وكما هو شأن كل مؤمن حي القلب يقظ الفكر حريص على الخير مقبل على الطاعة عالم بما ينبغي لكل حال وزمان بما يناسبه ويلائمه؟! إنه من الجهل والحمق أن تلبس الثياب الخفيفة في وقت الشتاء والزمهرير، وأن تلبس الثياب الثقيلة في وقت الحر الشديد، فكيف بنا نجعل اللهو والصفق في الأسواق والغناء والعبث والشراء وغير ذلك في الأوقات والليالي التي جعلت للعبادات والطاعات وغير ذلك مما نعلم.
إنها معارضات لابد من ذكرها ولابد من إعادة القول فيها، ولابد من جعلها دائماً تصب في كل سمع، وتخاطب كل عقل، وتنبه كل قلب ونفس، وإذا تأملنا لوجدنا ما كان عليه أسلافنا، تغلق الأسواق، وتفتح المساجد، ويهجر النوم فلا يكون هناك نيام، وإنما يحيا الليل بالذكر والقيام.
كانوا -كما ذكر ابن جرير - يغتسلون في كل ليلة من ليالي العشر، كان يفعل ذلك أيوب السختياني رحمه الله، وكان يفعله الإمام مالك فيما يرجح عنده أنه من ليالي القدر، فيغتسل ويتطيب ويلبس حلة لا يلبسها إلى العام القادم من شهر رمضان، وكان غيرهم يفعل مثل ذلك.