ومن أظهر ذلك وأبلغه ما رواه أنس رضي الله عنه:(أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إني لأشتهي الجهاد ولا أقدر عليه -أي: ربما كان من أهل الأعذار- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحد؟ قال: أمي، قال: قابل الله في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج، ومعتمر، ومجاهد، فإن رضيت عنك فاتق وبرها) ذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط والصغير ورجالهما رجال الصحيح، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب، وقال: إسنادهما جيد.
ومثل ذلك وأظهر منه حديث معاوية السلمي رضي الله عنه، قال:(أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق فقلت: يا رسول الله! إني أريد المسير معك للجهاد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أن له أماً تحتاج إليه: ارجع إلى أمك فالزمها، قال: فجئته من قبل وجه آخر، فقلت: يا رسول الله! إني أريد المسير معك للجهاد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، فقال: الزم أمك، فقلت له ثالثة، فقال: ويحك الزم رجلها فثم الجنة) رواه النسائي وابن ماجة في سننهما بسند صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ذلكم أن الجنة تحت أقدام الأمهات.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر فقال في سياق حديث طويل: (ودخلت الجنة فسمعت فيها قراءة فقلت: قراءة من هذه؟ فقيل لي: قراءة الحارث بن النعمان فقال: كذلكم البر! كذلكم البر! وكان الحارث من أبر الناس بأمه) رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
ومن هنا ندرك أن هذا المقام الجليل، والمكانة الرفيعة، والوجوب الشرعي لبر الأم إنما هو تقدير لدورها العظيم ورسالتها السامية، واعتراف بأثرها البليغ في قوة الأمة، ومكانة أجيالها، وصنع أسباب المناعة والحماية والوقاية من الآثار السيئة، ومن الشرور والأضرار الوخيمة.