للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رعاية التجانس]

إنّ رعاية التجانس تكمل ما سبق، ويتضح ذلك من خلال معرفة العلاقة بين الرجل والمرأة، إنها اليوم حقوق وواجبات، وقد صدعت رءوسنا ونحن نستمع إلى هذه الكلمات، فنسمع اليوم أن المرأة أخذت حقوقها، أو وصلت إلى كذا، أو ما زالت تحارب، فجعلنا الحياة كلها ميدان صراع وحرب بين رجل وامرأة، وما معنى ذلك؟! لقد صارت الحياة كلها صراع؛ لأنه ليس فيها إلّا رجال ونساء، ذكور وإناث، إذاً أوجدنا ما يشق هذه الحياة، ويمنع التئامها، ويحول دون تجانسها، ويقف دون تكاملها، ويمنع من أن تكون صورة متكاملة شقها الأول يكتمل مع الثاني ويتجانس معه، لتبدو الحياة كما أرادها الله عز وجل، وكما اقتضتها تشريعاته: حياة متوائمة ومتلائمة ومتجانسة ومتكاملة، ليس فيها شذوذ ولا تباعد ولا تناقض ولا تحارب ولا اختصام، كما صورتها لنا الحضارة الحديثة، وأدخلتها علينا الأفكار الدخيلة، فقد صرنا اليوم نتحدث عن قضية المرأة وللأسف من منطلق المدافع، وكأن تلك القضايا قد أصبحت مقررة ومثبتة في الأذهان، بل وقد مالت إليها نفوس كثيرة من الرجال أكثر من النساء، حتى صار تقرير أصل الخلقة وأصل الدين أمراً يحتاج إلى جهد ومشقة وإثبات وتدليل وبيان وبرهان، وهذه مسألة مهمة أوجبت علينا مثل هذا الحديث.

انظروا إلى الصورة النموذجية المشرقة الوضيئة الفياضة بالحب والود والحنان، الراسمة لأجمل صورة يمكن أن تكون عليها هذه الحياة الدنيا وهي قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:٢١] فهذا هو الرجل، وتلك هي المرأة.

إنّ هذه الخلقة المتباينة بين الطرفين تكاملاً وتجانساً من آيات الله عز وجل، ومن عظمة خلقه سبحانه وتعالى، ومن دلائل إعجازه وقدرته جل وعلا: (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ)، سبحان الله! كيف يكون الذي خُلق من النفس شيئاً مبايناً ومخالفاً؟! وكيف يكون مصارعاً ومغالباً؟! ولم لا يكون متجانساً ومتوائماً؟! (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)، وكلكم يعرف معنى السكن، فقد تكدح في الأرض، وقد تسافر شرقاً وغرباً، لكنك تعود إلى بيتك، وإلى سكنك، وإلى المأوى الذي ترتاح وتسكن فيه من تعب الحياة.

وانظروا إلى الرجل في طبيعة التكامل مع المرأة، إنه يسكن رحم المرأة أماً له، ويبقى فيه تسعة أشهر، ويسكن حضن المرأة رضيعاً بين يدي أمه، ويسكن حضن زوجته وصدرها محبة ومودة ومعاشرة وشهوة ولذة، ويسكن حضن ابنته وهي ترعاه في كبره، وهي تحنو عليه مع تقدم سنه، إن هذا المعنى يدلنا على عظمة دور المرأة، ولا يقصر في حق الرجل، لكن الرجل يتعب ويحتاج إلى السكن، ولن يجد سكناً إلا في ذلك.

ثم قال: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) نقل القرطبي عن ابن عباس أنه قال: المودة: محبة الرجل لزوجته، والرحمة: الشفقة عليها أن يصيبها منه مكروه، فإذا كان هذا هو الأصل في الخلقة والتجانس والتكامل، فهل ترون مجالاً لشقاق ينشأ من الفكر والتصور، أو تجاذباً واحتراباً ينشأ من واقع الفهم لهذه الخلقة، أم أننا في هذا نرى ذلك النموذج القرآن الذي أخبر الله عز وجل في غير ما آية من كتابه جل وعلا: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا).

ثم انظر إلى التصوير القرآن البليغ المعجز في قوله جل وعلا: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:١٨٧]، فأي شيء أقرب إلى جسدك؟ إنه لباسك.

وأي شيء يحسّن مظهرك؟ إنه لباسك.

وأي شيء لا تستطيع أن تستغني عنه وإلا بدت سوءتك؟ إنه لباسك.

فهذه المعاني وغيرها تعني: أن تكون المرأة بالنسبة للرجل زينته ولصيقته وجماله وستره، وتعني: أن يكون الرجل للمرأة كذلك، فليس ثمة صورة أقرب وأظهر في الامتزاج والتكامل والتجانس والمحبة والمودة من هذه الصورة.

ثم استمعوا لقوله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:١٩]، واستمع لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (لا يفرك مؤمن مؤمنة -أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة- إن ساءه منها خلق رضي منها آخر).

ذلك هو التوجيه القرآني والنبوي بأن يغض الرجل الطرف عن بعض النقائص، وأن يغلب الأصل، وهو ذلك الامتزاج والتلاحم والمودة والمحبة، وما يجري في الحياة من أسباب الشقاق تظلله تلك المحبة، فيصبح كسحابة صيف عابرة، ويصبح كما هو في طبيعة الحياة اختلاف يمر، وحديث يعرض، وهكذا تعود الأمور إلى أصولها؛ لأن الأصل أثبت من العوارض التي تمر بالإنسان.

وإذا نظرنا إلى ذلك وجدنا هذه الصورة المشرقة الوضيئة في إسلامنا وإيماننا تبين لنا أصل رعاية الإسلام بعيداً عن جناية من خالفوه من أبنائه، ومن ناقضوه من أعدائه.

نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا ديننا، وأن يبصرنا بكتاب ربنا، وأن يلزمنا نهج نبينا، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.