[أجور الأعمال مبذولة في رمضان وفي غيره]
واستمع كذلك إلى كثير وكثير وكثير من هذه الأرباح العظيمة والفضائل الجليلة، التي هي مبذولة من رحمة الله مبسوطة من فضل الله، ليس في وقت ولا في زمان بعينه: جاء من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحو سيئة، وخطوة تكتب له حسنة، ذاهباً وراجعاً) رواه أحمد في مسنده والطبراني وابن حبان في صحيحه.
فقوله: (ذاهباً وآيباً) ليس مختصاً برمضان، فما بالك قاعد في بيتك؟! وما بالك لاهٍ في سوقك؟! وما بالك نائم في سريرك وتارك لفريضة ربك، وغافل عن حقيقة ربحك، ومستوجب لعظمة خسرانك؟! نسأل الله عز وجل السلامة.
وهذا عثمان بن عفان يروي عن المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من توضأ فأسبغ الوضوء ثم مشى إلى صلاة مكتوبة فصلاها مع الإمام غفر له ذنبه) رواه ابن خزيمة في صحيحه، وروى مسلم نحوه.
وجاء من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة، إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته) رواه ابن خزيمة في صحيحه.
إن ربك يفرح بك إذا أتيت إلى بيته، وإذا أقبلت على صلاتك، فهل أنت مستغنٍ عن ذلك، ومقتصر عنه بشهر من اثني عشر شهراً وبأيام معدودات من ضمن مئات من الأيام؟! وانظر كذلك إلى حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي يقول فيه: (الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجراً، -أي: لكثرة الخطى إلى المساجد- من غدا أو راح إلى المسجد أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح)، وليس من هذه كلها شيء مختص برمضان.
ونحن -بحمد الله- رابحون في هذا الشهر، فإذا حسبنا أرباحنا وانشرحت بها صدورنا فلتبك أعيننا دماً لا دمعاً على أيام متواليات، وشهور متعاقبات، وأعوام منصرمات، حيث لم يكن لنا فيها شيء من هذا الربح، بل ربما كان الخسران هو الأكثر والأظهر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) رواه عن المصطفى عليه الصلاة والسلام ستة عشر صحابياً، فأين الذين يمشون إلى المساجد في الظلم في صلاة الفجر في غير رمضان؟! وهل هم مستغنون عن هذا النور؟ وهل يعتقدون أنهم إذا ربحوا شهراً وخسروا دهراً أن الصفقة في كل الأحوال رابحة؟! وهل يقول بذلك عاقل؟! وهل يرضى بذلك محب لنفسه؟! فمن يقول: إن تاجراً لا يفتح حانوته إلا في الموسم، ثم يغلق بقية الموسم وينام؟! وهل رأيتم أحداً يصنع ذلك؟! وهل في الدنيا طالب لا يدرس إلا شهراً من العام؟! وهل في العالم كله تاجر لا يعمل إلا شهراً في العام؟! وهل يمكن أن يُقتصر في أي عمل على شهر من العام؟! فكيف سيكون حال الناس إذا كان لا يتم علاجهم في المستشفيات إلا شهراً في العام؟! وكيف سيكون حالهم إذا لم تفتح المدارس إلا شهراً في العام؟! وكيف سيكون حال الناس إذا لم تفتح الأسواق إلا شهراً في العام؟ وكيف سيكون حال المؤمنين إذا لم يقبلوا على الله إلا شهراً في العام، وإذا لم يحرصوا على الحسنات إلا شهراً في العام، وإذا لم يتذكروا الفضائل إلا شهراً في العام، وإذا لم يدخلوا إلى المساجد إلا شهراً في العام، وإذا لم يقرءوا القرآن ويلتزموه ويتلوه ويتدبروه إلا شهراً في العام، وإذا لم تخرج أموالهم إنفاقاً في سبيل الله وتقرباً إليه إلا شهراً في العام؟!! وقيسوا على ذلك ما شئتم، وسلوا من الأسئلة ما شئتم، فإن خسائرنا عظيمة فيما نفرط فيه من طاعة الله، ومن الخير الذي ساقه الله سبحانه إلينا، ومن الأجر الذي أتاحه لنا طوال العام، وفي هذا الشهر يزيد بالأضعاف المضاعفة، والله سبحانه وتعالى لا تنفد خزائنه.
والله جل وعلا عظمته دائمة، وهو سبحانه وتعالى مستحق للعبادة والمحبة، وصدق الإنابة، ودوام الذكر، واستمرار الدعاء دائماً، وليس ذلك مختصاً بحال دون حال، قال عز وجل: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:٧٨] أي: تشهده الملائكة، كما روى أبو هريرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيصعدون إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون)، فتكتب الشهادات، وتسجل الأسماء في صحف الملائكة، وترفع إلى رب الأرباب سبحانه وتعالى، فأين سيكون اسمك فيما يأتي من الأيام والليالي في غير شهر رمضان؟ فهل نفكر كم هي خسارتنا ونحن كأنما نركل هذه النعم بأقدامنا، وكأنما نعرض عنها ونعطيها ظهورنا، وكأننا قد صمت أذاننا فلا نسمع تلك الآيات، ولا نعرف تلك الأحاديث، وكأن قلوبنا ليس فيها شيء يبعثها إلى التحبب وإلى العمل بهذه الطاعات؛ رغبة في تلك الأجور، وتأملاً في تلك الأرباح العظيمة.
ولو مضينا لوجدنا وراء ذلك شيئاً عظيماً، وهو في أمور كثيرة، ولعلي أخص بعضاً منها؛ لأن التقصير والتفريط فيه في غير رمضان أشهر، وخاصة أداء الصلوات في الجماعات، وخاصة صلاة الفجر، قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء)، فأنت في أمان الله، وأنت في جوار الله، وأنت في حفظ الله عز وجل ما أديت صلاة الفجر في جماعة، فكيف بك وأنت تخرج من غير أمان ولا جوار ولا حماية من الله، تنتهبك الشياطين، وتفترسك الوساوس، ويحيط بك أبالسة الإنس والجن؛ لأنك لم تأخذ حصناً من طاعة الله، ولم تأخذ وقاية من هذه الصلاة.
ومن ذلك الإقبال عند انبثاق الفجر، وعند بداية اليوم، وعند رجوع النفس إلى روحك، فعليك أن تحمد الله عز وجل على الطاعة، فكيف بك والكدر على وجهك، والثقل في نفسك، والغم على قلبك، في كل صباح؟! لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا فقال: (يضرب الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد؛ يضرب على كل واحدة منها فيقول: عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت الثانية، فإذا صلى الصبح انحلت عقده كلها، وأصبح نشيط النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)، كيف نهمل مثل هذه العبادات وهذه الأعمال الصالحات، ونقول: إنها تطوعات، وإنها من التطوعات الزائدة عن الفرائض، فرأس المال الأساسي هو في هذه الفرائض العظيمة.