[حال الصحابة في المسارعة إلى الخيرات]
بعد سرد هذا التوجيه القرآني، وبعد هذه القدوة النبوية، نذكر كيف كان ذلك جلياً في حياة الصحب الكرام، كما هو معلوم في ذلك الحديث المشهور عند الترمذي في سننه من رواية عمر رضي الله عنه وأرضاه، أنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً قال: فجئت بنصف مالي! فقال عليه الصلاة والسلام: ما أبقيت لأهلك؟ فقلت: مثله، ثم جاء أبو بكر بكل ما عنده، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقال عمر رضي الله عنه: والله لا أسابقه إلى شيء أبداً).
وهناك رواية أخرى في شأن آخر بين الشيخين الجليلين في أمر يسير؛ ليدلنا ذلك على أن أمر المنافسة والمسارعة، والحرص على الأجر والمثوبة، والسبق إلى الخير والإحسان؛ كان أمراً في طبيعة نفوسهم.
فقد روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث عمر أيضاً: (أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فمروا بـ عبد الله بن مسعود وهو يقرأ القرآن، فأنصت له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حسن التلاوة عذب الصوت، فقال عليه الصلاة والسلام: من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد، قال عمر رضي الله عنه: فأدلجت -أي: مشيت بالليل- إلى ابن مسعود لأبشّره، فلما ضربت الباب قال: ما أتى بك الساعة؟ قلت: جئت لأبشرك بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سبقك أبو بكر) أي: بهذه البشارة.
فهذا أبو بكر وعمر الرجلان العظيمان المشغولان بجلائل الأمور، ومع ذلك في أمر خبر من الخير يستبقان، فقال عمر رضي الله عنه في مثل هذا: إن يفعل فإنه سباق في الخيرات، وما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر.
وتأمل في هذه المسابقة التي أتت في صورة بديعة جملية، تدل على شيوع هذا في مجتمع المسلمين، يوم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقاطعة النفر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وكان أصغر القوم وأشبهم: كعب بن مالك رضي الله عنه، ومكث الثلاثة خمسين يوماً من القطيعة التامة، وكان القرآن قد أبلغ في وصف ما حصل فقال تعالى: {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:١١٨] فلما نزلت آيات التوبة، أراد الصحابة أن يسبقوا بالبشارة إلى كعب رضي الله عنه، ويروي القصة كعب فيقول: (فابتدر أحدهم على فرسه لكي يصل إلي، وعلا آخر على سلع ليرفع بالصوت) -كلٌ يسابق إلى هذا الخبر لينشره- قال: (فكان الذي على الخيل أسرع، فكسوته بردة والله ما كان لي أحسن منها).
هكذا كان شيوع المبادرة إلى الخيرات، لا يقول النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا يأمر أمراً، ولا تنزل آية، إلا وبادروا إلى الاستجابة والفعل والتنافس في هذا الميدان، وكان هذا هو الشأن السائد عندهم.
ولذلك لما تنزلت آيات تحريم الخمر امتنعوا منها لفورهم، ولما تنزلت آيات الحجاب لبس نساء المؤمنين الحجاب من وقته، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث ويحض فيستبقون.
كما استبقوا في الإنفاق يوم جاء القوم من مضر، فجاء رجل من الأنصار بصرّة من ذهب كادت كفه أن تعجز عنها، بل قد عجزت! فتتابع الناس حتى اجتمع كومان من ثياب وطعام، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة، وسرّه هذا السباق إلى الخيرات، فقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).
والسبق له مزية، والمبادرة لها ثمرة: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:١٠٠]، فكل من سبق تميز، {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:١٠]، فمن سبق إلى أمر له شرف في المنزلة، وزيادة في الأجر، ورفعة في القدر، وادخار عند الله سبحانه وتعالى، فكيف تريد المعالي ولا تبذل لها مهرها؟! وكيف تريد أن تحقق التفوق ولا تعطي له جهده: تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس قال الله عز وجل: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:٢٦]، وإذا أردت دون ذلك فالناس مقامات، والجنة درجات، والنار -والعياذ بالله- دركات: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:٣٢]، تلك هي المراتب، فاختر لنفسك، وانظر هل أنت مدرك لهذا الموسم في الاختبارات أم أن الأمر على غير ذلك؟! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلق قلوبنا بطاعته ومرضاته، وأن يجعلنا من المسارعين إلى الخيرات، المبادرين إلى الطاعات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.