للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حظر الأسلحة وفرض التقسيم على أبناء البوسنة والهرسك]

ما أسرع موقف الأمم المتحدة -في غمضة عين، وبسرعة رهيبة، وبإجماع سريع- لحظر الأسلحة على المتقاتلين في البوسنة والهرسك مع بدايات أول انطلاق الرصاص في تلك البلاد الإسلامية، ثم وعلى مدى عام كامل تظل قضية رفع حظر الأسلحة على إخواننا المسلمين قضية شائكة، يخشى منها أن تزيد من دائرة الحرب، وأن توسع من دائرة الدمار، وكذلك أن تجعل هناك حرباً عنصرية عرقية دائمة، وهذا هو الميزان الذي يزن به الغرب، وهذا هو المكيال الذي يكيل به، فهم يكيلون بمكيالين وبميزانين وبنظرتين وعينين، يكيل فيها لمن يحب ويوالي ويشترك معه في العقيدة والدين والمصالح بكيل يعطي ولا يبقي، وإلى من يخاصمونهم ويعادونهم في العقيدة والدين يكيلون لهم بكيل المنع والحبس والمصادرة والتضييق، حتى إن مجلس الأمن عندما صوت على قضية رفع حظر الأسلحة ظهرت مواقف أوروبا والدول الغربية عموماً تبين موقفها الشريف أمام هذه القضية الواضحة، ثم جاءت اليوم خطة التقسيم التي كان الإعلان الأوروبي رافضاً لها، ثم بعد ذلك وبتدرج ماكر خبيث عاد مقراً لها.

ثم في آخر الأمر هو اليوم يفرضها فرضاً فإما أن يقبل بها المسلمون، وإما أن يكون استمرار القتل والقصف والتدمير والاحتلال، وتتساوى القضية في وقت واحد، تبدأ محادثات السلام، ويزداد القصف على العاصمة سراييفو، ثم يزداد الحصار، وتقف الدول العظمى كلها عاجزة عن أن توصل طعاماً أو شراباً أو غذاءً أو أية نجدة إلى ثمانين ومائتي ألف محاصرين داخل هذه المدينة، يموتون جوعاً، حتى بدءوا في أكل القطط والكلاب والجيف المنتنة؛ لأنهم لا يجدون ما يأكلون، وأخشى -ولا أستبعد ذلك- أن يصيح صائح في الغرب الأبيض المتحضر ليعترض على مثل هذا؛ لأن فيه انتهاكاً لحقوق تلك الحيوانات، ومعارضة للرفق بها، أما الإنسان إذا كان مسلماً فهو عندهم وفي ميزانهم العملي لا القولي لا قيمة له، وقيمته أقل وأحقر من الحيوان، وهذا هو ميزانهم الذي أخبرنا الله عز وجل به، قال جل وعلا: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:١٠]، {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:٨]، والله سبحانه وتعالى قد بين لنا أنهم يسرعون بالبغضاء والعداء إلى المسلم في كل مكان، لا يمنعهم من ذلك إنسانية ولا مبدأ ولا قانون؛ لأن حقدهم الأسود في قلوبهم السوداء في نفوسهم المريضة، وفي عقولهم الكليلة يدفعهم إلى هذا الأمر دفعاً لا يملكون له منعاً، ولذلك نجد اليوم خطة التجويع التي يشارك فيها الغرب أيضاً، الذي كان يزدهي بأنه يساعد المسلمين بالمبدأ الإنساني، ويرسل الإغاثات في هذه الأيام، حتى هذه الغلالة الرقيقة التي كان يستر بها سوءاته وعوراته بدأت تنكشف اليوم، ومندوبة الأمم المتحدة لشئون الإغاثة تصرخ بأن الإغاثات انخفضت إلى أقل من (٥٠%) مع تعاظم الحاجة إليها في ظل الحصار الرهيب، والقصف المتواصل، والعسف المستمر، ومع ذلك حتى هذا الغذاء وهذه الإغاثات متوقفة ولا تتقدم مطلقاً، وهذا كله يدلنا على حقيقة المواقف، تشتد وتظهر وتفصح عن نفسها كلما دعت الحاجة إلى ذلك، كان الأمر في أوله نقداً لتلك الهجمة الصربية الشرسة، على اعتبار أنها يمكن أن تنتهي في ظرف قصير كما تم ذلك في مواقع أخرى من بلاد إسلامية اعتدي عليها، ثم لما امتد أمد الأزمة بوقوف إخواننا وصمودهم، ظل بعد ذلك الموقف يتراجع شيئاً فشيئاً، حتى صار اليوم موقفاً واضحاً معلناً يؤكد حقيقة الولاء والبراء، وحقيقة ما علمنا الله عز وجل إياه، فلم نتعلم منه التعلم الحقيقي، ولم نطبقه التطبيق الكامل عندما خاطبنا الله عز وجل بنداء الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:٥١]، وهكذا يتحقق ولاؤهم بصورة عملية، ويعيش إخواننا اليوم في مأساة لا أظن أن أحداً يمكن أن يجد لها مثيلاً أو مشابهاً في كل ما حل بالمسلمين في كثير من البقاع، بل في كل ما حل بكثير من الناس حتى في ظل الكوارث الطبيعية الإلهية التي يقدرها الله عز وجل، إذ إنهم -وخاصة في العاصمة سراييفو- يموتون موتاً بطيئاً، ومع ذلك بفضل الله عز وجل عندما أجريت مع بعضهم مقابلات فإنهم قالوا: نحن صامدون، ونموت موت الشرفاء، ولا نموت موت الأذلاء! وذلك الموقف هو الذي يعجب منه الغرب الكافر النصراني، الذي يشحذ قوته، ويريد أن يجهز على ذبيحته في هذا الوقت، ومع ذلك كله ربنا سبحانه وتعالى يبث في قلوب إخواننا المسلمين رضاً وسكينة وطمأنينة، ويبث في نفوسهم صبراً وثباتاً وجلداً، ونسأل الله عز وجل أن يديم عليهم هذه النعمة، وأن يثبتهم في وجه هذه الهجمة، وقد اتضحت لهم الصورة، وينبغي أن تتضح لكل مسلم في شرق الأرض وغربها، وأن يعرف المواقف على حقائقها، فالبوسني كان ولا يزال من شعوب أوروبا، وهو ابن تلك البلاد والديار، فعاش حضاراتها ولا زال، ولكنه عرف حقيقة الولاء والبراء، وحقيقة الحروب الدينية العقائدية، اليوم ينكشف له الزيف، ويعرف جيرانه الأوروبيين أنهم نصارى وأنه مسلم، وذلك فرق كبير بينه وبينهم، يجعلهم يتألبون بالعداء عليه، ويسعون لإهلاكه وتدميره، رغم أنه لا يملك حولاً ولا قوة.

وانظر إلى المواقف العادلة لهذه الحضارة الجائرة: تمنع السلاح عن العزل، وتحيطهم بقوى مدججة بالسلاح، وتسوف في المؤتمرات والقرارات، وتمنع الإغاثات، ثم بعد ذلك يقال: إن الذي يعرقل السلام هم البوسنيون، ورئيسهم الذي يمتنع عن المفاوضات التي هي في حقيقة الأمر نوع من العداء السافر، ونوع من الإجبار القاهر، ونوع من الصورة الوقحة لتلك القوى التي تتستر وراء العدالة والقوانين الدولية، ولذلك كشف المسلم في البوسنة الحقيقة، وينبغي أن يكشف هذه الحقيقة كل مسلم، وأن ينادي كما نادى مسلمو البوسنة: يا ساسة القمع الرهيب تأهبوا وتسلحوا بحديدكم والنار إني صحوت فلا تخدرني حلاوة منطق ومهارة استعمار إني صحوت فجردوا أسيافكم وتجسسوا وتحسسوا أخباري إني صحوت ولست أخدع بعدها يوماً بزيف خادع الأبصار ينبغي أن نكشف الأمور، وانظروا إلى حقيقة العقائد كيف تصنع!