[فطنة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ودعوته إلى الحق]
وفي سياق الهجرة ننتقل إلى المحطة الثالثة لنفرد بعض أحداث الهجرة في هذه المحطة المهمة، محطة الفطنة والدعوة، لقد كان جعفر رضي الله عنه ذكياً أريباً أديباً، حسن المنطق، راجح العقل، وافر الذكاء، يحسن القول في وقت القول، ويحسن ما يذكر في القول مما ينفع ولا يضر، وكان رضي الله عنه وأرضاه داعيةً حكيماً حصيفاً أريباً.
ولذلك كان مُقَدَّم القوم والصحابة في الحبشة، كما أشرنا أن ابن سعد في الطبقات روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان أميراً للمؤمنين في الحبشة.
ونعلم جميعاً القصة الشهيرة التي نريد أن نذكر سياقها في قصة بعث قريش لـ عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص ليذهبا إلى النجاشي ويطلبا منه تسليم الصحابة رضوان الله عليهم الذين هاجروا إلى الحبشة، فإن قريشاً بجاهليتها الجهلاء وغطرستها العمياء ورغبتها في العدوان والإيذاء لم تترك المهاجرين وقد تركوا لها مكة كلها وذهبوا إلى الحبشة، فلحقت بهم، وأرادت أن تردهم لتشفي غيضها بعذابهم وإيذائهم، ولتمنع تسرب الدعوة من الجزيرة إلى خارجها، ولئلا يشوه المسلمون سمعتها وصورتها عند الآخرين من الأمم والأقوام، فبعثوا حينئذٍ عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وسياق الرواية نذكره من رواية أم سلمة رضي الله عنها، وكانت من المهاجرات إلى الحبشة، وهذا السياق عند الإمام أحمد في مسنده، وهو الذي ذكره ابن إسحاق وابن هشام في السيرة، وبنحوه ذكره ابن سعد في الطبقات، والبيهقي في دلائل النبوة، وهو سياقٌ فيه كلامٌ نفيس وعرض جميل يدل على الذكاء والفطنة، وعلى الدعوة كذلك.
قالت أم سلمة رضي الله عنها: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، آمننا على ديننا، وعبدنا الله فلا نؤذى، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا إلى النجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، فجمعوا له أدماً -أي: جلداً- كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له.
وهذا ما يسمى اليوم بالضغط السياسي، حيث هيئوا له، وأهدوا للبطارقة الهدايا حتى يوافقوهم على قولهم.
ثم قالت: بعثوا بذلك -أي: بهذه الهدايا- عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص -وكانا على غير الإسلام- وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريقٍ هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم -لا يريدون للنجاشي أن يسمع قولهم- فقدما على النجاشي فدفعا إلى كل بطريقٍ هديته، وقالا: إنه قد صبأ إلى بلدكم منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدينٍ مبتدعٍ، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً.
فقالوا: نعم.
وانظر إلى دهاء عمرو بن العاص؛ حيث قال لهم: فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم.
أي: فلا هم منا ولا هم منكم، فليست لكم بهم صلة، وليس عندكم شيءٌ لأجله تحفظونهم أو تراعونهم.
ثم أشاروا إليهم أن يدفعوا النجاشي إلى أن يسلمهم دون أن يسمع لهم.
فجاءا إلى النجاشي وقربا إليه هدايا، ثم قال لهما: تكلما.
فقالا له: أيها الملك! إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدينٍ مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وبما عابوا عليهم.
فقالت بطارقته: صدقوا، فأسلمهم إليهما -تسليم مجرمين كما نقول اليوم، أو اتفاقيات تسليم لمجرمين أو لإرهابيين كما يزعمون اليوم-.
فغضب النجاشي وقال: لاها الله إذاً: لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ماذا يقولون، فإن كانوا كما يقولان -أي: عبد الله وعمرو بن العاص - سلمتهم إليهما، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما أن جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن.
فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله قال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين آخر من أديان هذه الأمم؟ قالت: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب.
-وفي بعض الروايات أن جعفراً قال: إذا جئنا فأمسكوا فإني أكون أنا الذي أكلمه.
فماذا قال جعفر؟ قال: أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله عز وجل إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، وكف الأذى، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه، وآمنا به، فعبدنا الله عز وجل فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدى علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، فاخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
وأعتقد لو أن مؤتمراً إسلامياً كاملاً يعقد حتى يصوغ مثل هذه الدعوة الجليلة الذكية لقصر عن ذلك.