للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأم المربية أنشأت العلماء]

ولذلك أي شيء يمكن أن يلفت النظر إذا رأيت ذلك الشاب التقي النقي الورع، أو حتى رأيت ذلك الرجل العالم الداعي المصلح، إن كثيراً من الناس يفكرون في جهده وتعليمه وشيوخه وينسون أن الأصل الأول، وأن البصمة الأولى، وأن البداية والانطلاقة إنما كانت من أم مربية! خذوا كل من تشاءون من أمثلة الأئمة والعلماء في التاريخ، نقبوا في صفحات حياتهم، ارجعوا إلى أيام طفولتهم، سترون وراءهم أماً عظيمة مربية، فهذا سفيان الثوري إمام التابعين، وعلم المحدثين، ورمز الزاهدين، ربته أمه وقالت له: يا بني! اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي، كان أبوه ميتاً فجعلت عملها لكي تفرغه لطلب العلم، كانت تعلم ما الخير وما الأفضل والأمثل، ما الذي ينبغي أن تنشئ عليه صغيرها، ما الطريق الذي ترسم له مساره فيه، وتدرج به في خطواته الأولى عليه، وقد كانت تتخوله دائماً بالوعظ والتوجيه وهو في نعومة أظفاره، فكانت تقول له: يا بني! إذا كتبت عشر طرق -أي من الحديث- فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم يزد ذلك فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك.

تريد أن تلقنه أن العلم إنما يكون للعمل، وأن أثر العلم ينبغي أن يستقر إيماناً وتقى في القلب والنفس، وأنه ما لم يكن ذلك كذلك فلا نفع ولا جدوى، بل ربما يكون ضرراً وإثماً لا قدر الله، أليست هذه الأم كانت أياديها التربوية ومنهجيتها التعليمية هي البداية لذلك الإمام الجليل، والعالم العظيم؟ انظروا إلى الصحابيات من الأمهات المربيات وكيف كان الأثر التربوي يغرس منذ نعومة الأظفار بذرة إيمان في سويداء القلوب، وسمات أخلاق في أعماق النفوس، فهذه الربيع بنت معوذ رضي الله عنها تقول: (أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء فقال: من كان صائماً فليتم صومه، ومن لم يصم فليمسك -أي: عندما بدأ بأمره أو توجيهه عليه الصلاة والسلام لصيامه- قالت: فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوم أبناءنا -أي: الصغار- قالت: فكنا نصومهم ونأخذهم إلى المسجد، ونأخذ معنا لهم اللعبة من العهن، فإن بكى أحدهم لهيناه بها حتى يتم صومه ويؤذن المغرب) تلك هي التنشئة، وتلك هي ملامح ومعالم التربية، أخرجت جيل الأتقياء الأصفياء، جيل الأعزاء المجاهدين، أخرجت جيل العلم والعلماء، ويوم افتقدنا هذه الأم المربية، ويوم خرجت إلى الأسواق لاهية عابثة، ويوم شغلت بالأعمال وخلفت وراءها أبناء وبنات ليس لهم من يرعاهم ولا يربيهم أخرجت لنا أجيالاً لم يعد لها حظ من سمت الإيمان، وصفة الإسلام، واستغربت في فكرها، وامتهنت في شكلها وهيئتها، وذلت في عزتها، وضعفت في إيمانها.