وقد قلنا: إن هذه العدة لا بد أن تكون مناسبة للصيد، فالشبك للبحر، والسهم للبر، والبندقية للطير، ونحو ذلك، فليس من الفطنة ولا من الحكمة أن تأتي للعامي فتحدثه في أصول الفقه، وتأتي للذي عنده بصر في العلوم الطبيعية فتحدثه عما ليس له به صلة.
هذا نوع من عدم الإتقان، كأنك جئت إلى البحر لتصطاد سمكة ببندقية! فإنها لن تصيب، وإن أصبت فهي إصابة طائشة، ولذلك فإن على الداعية معرفة مقامات المدعوين، وفهم نفسياتهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع مقالة العباس له: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فلو جعلت له شيئاً! تلطف الرسول صلى الله عليه وسلم في المدخل إلى أبي سفيان، وصاده من هذا المكمن، فقال:(من جلس في داره فهو آمن، ومن دخل في البيت الحرام فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، ولماذا أبو سفيان على وجه الخصوص؟ لأجل هذه السمة التي كانت فيه، رضي الله عنه وأرضاه.
ويبين لنا صفوان بن أمية منطقاً آخر، يجعله أيضاً منهجاً في هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبغض الخلق إليّ، فما زال يعطيني، -أي: من المال- حتى كان أحب الخلق إليّ.
وكذلك فعل النبي عليه الصلاة والسلام مع مسلمة الفتح يوم حنين، حيث أعطاهم وأعطاهم تأليفاً لقلوبهم، فكل إنسان له مدخل، وله مناسبة معينة، والمناسبة تختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف أحوال الأشخاص، وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، فهذا سائل يقول له:(أوصني، فيقول النبي: لا تغضب)، والآخر يسأله:(أوصني، فيقول: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)، وثالث يسأله فيجيبه بإجابة أخرى، وما تنوعت الإجابات إلا لمناسبة أحوال هؤلاء الناس، فلابد أن تعرف ذلك الصيد، وما هي العدة التي تناسبه: إن كان من أهل العلم فمدخله العلم، وإن كان من أهل العلاقات الاجتماعية، فمدخله كيف راعى الإسلام تلك العلاقة وضبطها، وإن كان من أهل التجارة والاقتصاد، فمدخله كيف حث الإسلام على العمل والسعي في كسبه، وكيف يتعامل معه، ولابد أن يصدم الإنسان حينما لا يدرك هذه الغاية وهذه الحقيقة، فيتعثر في النجاح، فيأتي وليس عنده إلا نفس العدة، يريد أن يصيد بها كل خلق الله وبنفس الأسلوب، وهذا لا يحصل به الصيد، بل هو نوع من أنواع تنفير الصيد الذي سيأتي حديثنا عنه لاحقاً.
ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم نجابة ابن عباس قال:(اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل) ولما رأى في ابن عمر مزية العبادة قال: (نعم الرجل عبد الله! لو كان يقوم من الليل) ولما رأى في أبي بصير شكيمة الحرب قال: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال).
فبحسب الحال الذي تقتضيه الدعوة، وبحسب الحال الذي في هذا الشخص كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجه، ولذلك كان الصحابة مختلفين في التخصص، ولم يكونوا كلهم على شكل وتخصص واحد، بل كان كل منهم يتميز بميزة: فـ أبي أقرؤهم، ومعاذ أعلمهم بالحلال والحرام، وزيد أفرضهم، وهكذا، ومن راعى ذلك كانت له النفوس صيداً سهلاً لا يحتاج إلى مزيد عناء، والذي يأتي بمفتاح ويدخله في موضعه فإن بابه يفتح سريعاً، أما إن كان فيه نوع من عدم المناسبة فإنه يحاول ويحاول، وقد يفتح وقد لا يفتح، وقد يكسر مفتاحه بالكلية، وقد يكسر القفل أيضاً، ولذلك ينبغي أن تكون صاحب بصيرة، فإذا جئت إلى قفل تفتحه، وما دخل المفتاح، أو علمت أنه ليس مفتاحه، فلا تكن غبياً فتصر على أن تفتحه بهذا المفتاح، فإنك بذلك تعطل المفتاح وتعطل القفل، ولن تظفر بنتيجة، بل غير مفتاحك، وغير أسلوبك، وغير عدتك، فإن هذا هو الذي ينبغي أن يكون.