[حقيقة الجهاد في الإسلام]
قضية الجهاد في سبيل الله على الصورة التي ذكرها هؤلاء غير واردة ولا متطابقة مع منهج هذا الدين في نصوص القرآن وفي نصوص السنة وفي تطبيقات الواقع العملي؛ فالله سبحانه وتعالى يقول في نداء المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:١٢٣]، ونداءات القرآن في شأن الجهاد قوية وواضحة، كقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:٣٨].
وقد جعل الله سبحانه وتعالى مرتبة المجاهد أعلى وأسمى من غير المجاهد، وجعل في كل حركة وسكنة في طريق المجاهد أجراً يتضاعف له، كما قال الله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة:١٢٠].
وهذه النصوص تدلنا على أن القضية أصيلة ومطلقة، وليست محدودة، وإنما هي لتثبيت هذا الدين ونشره ومنع من يحولون بين الناس وبين معرفته على حقيقته؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين شأن الكافرين بأنهم: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:٨].
وكذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر شيئاً من الأعمال وبالغ في تفضيله مثلما ذكر في شأن الجهاد؛ فقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن فضل الجهاد فقال للسائل: (هل تستطيع حينما يخرج المجاهد أن تقوم فلا تنام، وأن تصوم فلا تفطر؟ قال: ومن يطيق ذلك؟! قال: لو فعلت ذلك ما بلغت أجر المجاهد) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، بل إنه عليه الصلاة والسلام بين تعلق المؤمن بهذه الفريضة وبهذا الأمر في هذا الدين بأنه هو الأمر الوحيد الذي يتمنى المؤمن لأجله أن يعود إلى الدنيا ليقتل في سبيل الله لما يرى من الكرامة والأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قارع الكفر والشرك لم يكن ينطلق قطعاً من الضرورة المدنية لدولته أو من الضرورة الاقتصادية لمجتمعه، وإنما كان الأمر واضحاً وجلياً في قوله سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:٣٩]، وأيضاً كان واضحاً أن القضية كانت باسم هذا الدين، ولأجل نشر راية هذا الدين، وكذلك سار أصحابه من بعده.
وكل انحراف عن هذا المعنى إنما هو مغالطة للتاريخ وتفريغ لمحتواه، أما المغالطة فظاهرة، وأما التفريغ فكيف يمكن أن يفسر الإنسان أن هؤلاء المسلمين الذين لم تكن لهم قوة ضاربة خرجوا من جزيرتهم وقوضوا الممالك الكبرى والعظمى؟! وكيف فتحوا الديار شرقاً وغرباً؟! وكيف كانوا مع جهادهم وقتالهم يمثلون الحضارة والتعامل الإنساني الرائع؟! وكيف كانوا يمثلون الحرية الدينية في ظل قول الله سبحانه وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:٢٥٦]؟! حتى اعترف كل أعدائهم بأنهم مثلوا هذا الجانب تمثيلاً صادقاً وواقعاً.
وخلاصة القول: أن هذا التخوف الذي يظهر من الأعداء ومن بعض الأبناء إنما يبين حقيقةً واضحة، وهي: أن هذا الدين بحقيقته الكاملة وشموليته الواقعة وتفاعله الكامل مع هذه الحياة هو الأمر الذي يخشى منه أعداء الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فإنهم يلتمسون لحربه كل طريق.
والطرق في ذلك متنوعة وكثيرة ربما يأتي لها مجال حديث، لكنها تنصب أساساً في إجراءات وقائية وفي إجراءات عدائية.
أما الوقائية فهي: الضرب والطعن في المبادئ، والتشكيك في الحقائق، والتزوير في التاريخ؛ حتى لا يستطيع أحد أن يستفيد أو أن يستند إلى هذه الأمور بعد أن تكون قد عراها هذا الأمر، فيكون هناك وقاية من هذا الجانب، وهذه الوقاية غايتها أن يحال بين الناس وبين الفهم الصحيح للإسلام.
والإجراءات العدائية: تشمل ألواناً من الحرب الإعلامية، ومن الحرب المباشرة عسكرية كانت أو اقتصادية، وكذلك تتضمن التضييق في كل الجوانب، وخاصة من الناحية الاقتصادية.
وهذه الأمور كلها يمكن أن يجدها الإنسان، ولكن اليقين الذي يكون عند الإنسان المؤمن هو وعد الله سبحانه وتعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:٧]، وهو وعد الله سبحانه وتعالى بأن هذا الدين هو المنتصر: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:٢١].
وكذلك وعد النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكر مما يكون في مستقبل الزمان بالنسبة للمسلمين وانتصار دولتهم وارتفاع رايتهم.
فالمؤمن الذي يبقى على هذه الحقائق لا يحول بينه وبينها حائل، بل يمكن أن يكون هو اللبنة الصحيحة والصالحة لبناء المجتمع المسلم المتكامل، ولتطبيق شرع الله سبحانه وتعالى التطبيق الذي كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد أصحابه من بعده.
وهو كذلك المؤهل لأن يكون المجاهد في سبيل الله سبحانه وتعالى الذي يحول بين القوى التي تمنع الناس من معرفة الدين وتحول بينهم وبين الدخول فيه أفواجاً.
وهذا يقتضي أموراً كثيرة، كقوة الإيمان، وصحة العلم، وصحة العبادة، ونشر العلم الصحيح، وكذلك العمل التطبيقي، وهذا هو الذي ينبغي أن يفهمه المسلمون في ظل هذه الصيحات التي تخوف منهم، والتي تتربص بهم، والتي تستعدي الجهود عليهم، والله سبحانه وتعالى غالب على أمره: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:٨٨].
الله سبحانه وتعالى نسأل أن يوفق المسلمين لمعرفة حقيقة دينهم، وأن يجعلهم متبصرين بحقيقة أعدائهم، وأن يجعلهم متمسكين بما أمر الله سبحانه وتعالى وبما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.