قال ابن القيم رحمه الله في إطلالة قرآنية، واستنباطات روحانية، ودلالات علمية تكشف حقيقة الحياة البشرية، وتدل على سبل النجاة الحقيقية، قال رحمه الله تعالى:(قوله جل وعلا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}[الحجر:٢١] متضمن لكنز من الكنوز، وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه، ومفاتيح تلك الخزائن بيده، وأن طلبه من غيره ممن ليس عنده ولا يقدر عليه أمرٌ غير محمود ولا معقول.
وقوله جل وعلا:{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}[النجم:٤٢] متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد لم يرد لأجله ويتصل به فهو مضمحل منقطع، فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها، فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}[الحجر:٢١]، واجتمع كل ما يراد له في قوله:{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}[النجم:٤٢]، فليس وراءه سبحانه غاية تطلب، وليس دونه غاية إليها المنتهى، وتحت هذا سرٌ عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ولا يسكن إلا بالوصول إليه).
إنها حقائق القرآن، إنها الوقائع الحقيقية في حياة البشرية، أفلا ترون غير المسلمين عموماً وبعض المسلمين الشاردين عن طاعة الله خصوصاً، كيف تيسرت لهم أسباب الدنيا، وكيف كسروا حواجز الحرام فأكثروا من شهواتها وملذاتها، وكيف تيسرت لهم كثير من الأسباب التي يتمناها غيرهم من الناس، فهل خلصت السعادة إلى نفوسهم؟! وهل سكنت الطمأنينة قلوبهم؟! كلا والله، إنك لترى الشقاء مرسوماً على جباههم، وبادياً في وجوههم، وظاهراً في حزنهم، ومتجلياً في كسف بالهم، إنك تراهم وقد ملكوا الدنيا وأسبابها وهم ما يزالون في نكد وبلاء وضيق؛ لأن شقاء الدنيا كله قد جمعته وأوجزته حقيقة ربانية في شطر آية قرآنية:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}[طه:١٢٤] ضنكٌ في كل شيء، ضنكٌ في أسباب الحياة المادية والمعنوية، ضنك في أسباب الحياة الفردية والجماعية، ضنك في أسباب الحياة الداخلية والظاهرية، ضنك لا يكاد ينفك عنه أحدٌ إلا إذا أقبل على الله، وعلق قلبه بالله، وأفضى بعوالج ولواعج قلبه ونفسه إلى خالقه ومولاه، لا يمكن أن يتخلص من همه وغمه إلا بتلك المناجاة والتضرع إلى الله، والإقبال على الله، فإنه لا يسد فاقة القلب ولا يلم شعثه إلا الإقبال على الله، ولا يمكن لأحدٍ أن يطلب تلك السعاة والراحة إلا من هذا الطريق، وإلا فإنه محجوب مردود على عقبه غير بالغ مقصده، ولا نائل إربه، وتلك الحقيقة تنطق بها الآيات، وتشهد بها الوقائع في حياة الناس، وهذه كلمات أخرى تدل على ذلك وتؤكده في كل صور الحياة النفسية والقلبية التي يحتاجها كل إنسان على سبيل العموم، وكل مؤمن مسلمٍ على سبيل الخصوص، إن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزنٌ لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلقٌ لا يسكنه إلا الاجتماع إليه، والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، وفيه طلبٌ شديدٌ لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً، وها نحن أيها الإخوة الأحبة نوضح هذه الحقيقة فهل إلى مراجعة من سبيل؟! وهل إلى مصارحة من طريق تجعلنا ندخل السرور إلى نفوسنا، ونذهب الهم والحزن عن قلوبنا، ونشيع اللذة والحبور والسرور في أرواحنا؟! استمعوا إلى نداء القرآن الفريد العجيب:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}[الذاريات:٥٠] وكل شيء خفته فررت منه، وكل شيء يمكن أن يكون سبباً -ولو بتقديرٍ- في شيء من ضرٍ لا يتصور أن يكون علاجه وبرؤه منه لكنها الحقيقة الربانية، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}[الذاريات:٥٠] كلما أظلمت الدنيا في وجوهكم فروا إلى الله كلما تعاظمت المشكلات والصعوبات فروا إلى الله كلما ضاقت الصدور وقست القلوب فروا إلى الله كلما جمدت الأعين وقحطت الدموع فروا إلى الله كلما لغت الألسن وأكثرت من الباطل فروا إلى الله تجدوا عنده كل ما يملأ قلوبكم ونفوسكم أنساً وسعادة وسروراً، وذلك أمره بينٌ وقد فقهه أسلافنا وعلماؤنا وأئمتنا، وهو أمرٌ لا يحتاج إلى ذلك كله، فهو أمرٌ يفقهه ويعرفه -بل يذوقه ويستشعره- كل مؤمن يقبل على الله ويقف بين يديه، ويتوسل إليه، ويتضرع إليه، وذلك مما تشهد به وقائع أحوالنا، فعندما تتغير أحوالنا في بعض الأوقات عند الملمات أو في المناسبات والطاعات نشعر بأثر ذلك، ونشعر بلذة في لحظات نقيسها ونزنها بسنوات وسنوات؛ لأنه ليس هناك أثقل ولا أجمل ولا أفضل من تلك السعادة النفسية الروحية التي فيها هدوء البال، وسكينة النفس، وطمأنينة القلب، ورشد العقل، وسكينة تفيض على الإنسان كل هذه المعاني الطيبة الحسنة.