[تعريف العفة ومعناها]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الكبير المتعال، الموصوف بصفات الكمال، المتفرد بالعزة والجلال، منه المبتدى وإليه المرجع والمآل، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو جل وعلا أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وله الحمد أولاً وآخراً دائماً وأبداً ملء السموات والأرض وملء ما شاء من شيء بعد، أحمده سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فنحمد الله جل وعلا على أن جدد الأنفاس؛ لنعاود التذكر والتفكر في آياته، ونستلهم العبر والفوائد من أحاديث وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولنجدد العهد بحلق الذكر ومجالس العلم، سائلين الله جل وعلا أن يتقبلنا في عباده الصالحين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما يعلمنا، وأن يزيدنا علماً، ويعيننا على طاعته، ويجعلنا من عباده الصالحين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعنا في دار رحمته ومستقر كرامته في مقعد صدق عند مليك مقتدر إخواناً على سرر متقابلين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو أكرم مسئول وأعظم مجيب، ونسأل الله جل وعلا من عظيم فضله ووافر عطائه وعظيم جوده سبحانه وتعالى.
وكلامنا سيكون عنوانه (تاج العفة والرءوس المريضة)، ويأتي ضمن دروس لفضلاء من أهل العلم والمشايخ كان أكثرها يدور حول موضوع المرأة والأسرة وبناء المجتمع الإسلامي في ظل هذه التغيرات العظيمة في المجتمعات المعاصرة، وفي ظل الهجمة الشرسة على نظم الإسلام وتشريعاته، وفي ظل الانحرافات السلوكية الأخلاقية التي غزت بلاد الإسلام والمسلمين عبر الفضاء من خلال القنوات الإعلامية، وعبر المخالطة من خلال السفر والاختلاط، ونحو ذلك من أسباب أخرى كثيرة، وموضوعنا يتعلق بأساس مهم وركيزة عظمى من ركائز حفظ المجتمع المسلم؛ لأن أمر الأسرة عظيم.
وسنحاول أن نلم بأطراف هذا الموضوع الذي يتشعب في الحقيقة إلى موضوعات كثيرة كل منها جدير أن يفرد بحديث مستقل، فنتحدث أولاً عن معنى العفة، ثم نعرج على عوامل تحقيق العفة، ونسلط الضوء على ثمارها ومنافعها عندما تتحقق في واقع المجتمع، وبعد ذلك ننتقل إلى الشق الآخر لنقف على عوامل تضييع العفة، والأوهام والشبهات الباطلة المتعلقة بهذا الموضوع، ثم نختم بالمخاطر والآثار السلبية الناشئة عن التفريط في العفة.
أولاً: معنى العفة.
قال ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة): العين والفاء أصلان صحيحان.
أي: أصل الكلمة مبني على هذين الحرفين، ويرجعان إلى أصلين صحيحين: قال: الأول: الكف عن القبيح.
والثاني: الدال على قلة الشيء.
فأصل الكلمة يعود إلى الكف عن القبيح وإلى معنىً آخر هو قلة الشيء، وبينهما ربط يأتي الحديث عنه.
ثم قال: العفة: الكف عما لا ينبغي، والعفة -وهي الأصل الثاني- بالضم هي بقية اللبن في الضرع.
أي: هي الشيء القليل كما مر.
وقال الراغب الأصبهاني في (مفردات القرآن): العفة: حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة.
أي أن هذه العفة معنىً يقوم بالنفس، فيمنع من غلبة الشهوة فيما حرم الله سبحانه وتعالى، قال: والمتعفف هو المتعاطي للعفة بضرب من الممارسة والقهر، وأصله -أي: أصل معنى العفة-: الاقتصار على تناول الشيء القليل الجاري مجرى العفافة.
وهذا هو الربط بين المعنيين.
فالعفة: الكف عن الحرام.
ومن كف عن الحرام فإنه يأخذ القليل من الحلال الذي يكفيه ويعفه ويحصل به النفع له، ويمتنع به الضرر عنه وعن غيره في بناء المجتمع المسلم.
وقال صاحب (لسان العرب): العفة هي الكف عما لا يحل ويجمل.
والأمر هنا في كلامه أوسع.
فالمراد بالعفة الكف عن المحرم وعما لا يجمل أيضاً، أي: عما يكون قبيحاً في أعراف الناس الصحيحة، بمعنى الكف عما لا يتفق مع الذوق العام مما يكون مستهجناً في وسط المجتمع المسلم.
قال: وعف عن المحارم والأطماع الدنية يعف عفة وعفاً وعفافاً فهو عفيف، وعف إذا كف، أما الاستعفاف فهو طلب العفة والعفاف.
ولذلك ورد في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم (ومن يستعفف يعفه الله)، وقال جل وعلا في محكم التنزيل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:٣٣] أي: ليطلبوا العفة والعفاف من طريقه الذي سنشير إلى بعض معالمه وملامحه.
قال: والاستعفاف هو طلب العفاف، وهو الكف عن الحرام والسؤال من الناس.
فإذاً ظهر لنا أن معنى العفة الكف عن المحرم الذي حرمه الله سبحانه وتعالى، والاكتفاء بما حل وإن كان قليلاً؛ لأن القليل الذي أحله الله هو الذي يشبع الغريزة، ويطمئن النفس، ولا يحتاج معه العاقل إذا عرف عواقب الأمور إلى زيادة عن هذا الحد المشروع.
وفي مقابل العفة معنىً آخر، هو الخسة والدناءة، فثمة رجل عفيف ورجل دنيء، والعفة لا يقتصر في معناها على جنس دون جنس، فليست العفة خاصة بالنساء دون الرجال، بل يقال: امرأة عفيفة ورجل عفيف، وكذا فيما يقابلها، ثم أيضاً مما يتصل بمعنى العفة أن نعرف طبيعة النفس الإنسانية، والنفس هي كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بعض مناحيها بقوله: (لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لابتغى ثانياً، ولو كان له واديان لابتغى ثالثاً، ولا يملأ فم ابن آدم إلا التراب)، فطبيعة النفس البشرية أنها لو تركت لهواها لا تشبع.
فالعفة التي هي اقتصار على القليل الكافي هي أمر فيه نوع من التربية والتهذيب للنفس، أما لو تركت النفس كما تشاء فإنها لا تقتصر على العفة، بل تتجاوزها إلى ما وراءها.
فإذاً العفة تقبض النفس التي في أصل طبيعتها نهم وشغف لا ينتهي مطلقاً، وإن كان النهم في بعض الجوانب يستحسن، كما ورد أيضاً في حديث المصطفى (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا)، فطلب العلم أصله صحيح، والنهم فيه محبوب، وطلب الدنيا أصله صحيح، ولكن النهم فيه غير مرغوب؛ لأنه لا ينتهي إلى حد، ولا يزال الأمل بالإنسان حتى يقطعه الأجل، ولو مد للإنسان لحظة من عمره لكان له فيها آمال جديدة يزيدها إلى سالف آماله.
فإذاً: لو تركنا النفس بطبيعتها لما انتهت إلى حد، وشارب ماء البحر لا يفيده شرب الماء لملوحته إلا الزيادة في العطش.
فلابد من ضابط، والضابط هو ما جاء في شرع الله من قليل نافع كافٍ حلال يحصل به المقصود، ويتحقق به النفع، ومن ثمَّ كان للعفة صلة في معناها بالتوسط والاعتدال، والعفة عندما تقتصر على شيء وتترك شيئاً فإنها تأخذ بالوسط الذي لا يبلغ الغاية في مداه، ولا يحرم النفس مما تشتهيه وتحتاج إليه، فكانت العفة -أيضاً- ضرباً من الوسطية، ونوعاً من تحقيق المراد الذي تحتاج إليه النفس من غير إفراط ولا تفريط.