للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاستئذان في ثلاثة أوقات]

يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:٥٨].

فهذه الآية تذكر حكماً من أحكام الاستئذان الفرعية، جعله الله عز وجل مخصوصاً بالعبيد وبالأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، لكنهم مع ذلك صاروا مميزين يعرفون العيب من غيره، ويعرفون بعض الحق من الباطل، ويعرفون ما يستحيا منه وما لا يستحيا منه.

ولذلك ذكر بعض أهل العلم استنباطاً من هذه الآية أن ثبوت الاستئذان وتكراره ثلاثاً مأخوذ من هذه الآية وهي قوله تعالى: (ثَلاثَ مَرَّاتٍ).

قال بعض أولئك: أي ثلاث دفعات، أي يستأذن ثلاث مرات، وهذا استنباط غير صحيح، بل الغالب الذي قاله أهل العلم كما نقله القرطبي عن ابن عبد البر: أن قوله: (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي: في ثلاثة أوقات متفرقة، أما الاستئذان ثلاثاً فإنه وارد ثابت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (من استأذن ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع).

وليست هذه الآية موضع هذا الاستنباط بتكرار الاستئذان في الوقفة الواحدة.

ثم قال القرطبي في تفسيره في علة التخصيص بالإماء والصغار، وعلة التخصيص بهذه الأوقات أدب الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها.

أي: الأدب مخصوص بالعبيد؛ لأنهم لا يؤبه لهم؛ لكثرة ترددهم في بيوت الناس وخدمتهم لهم، قد لا يتحفظون منهم.

ونعلم أن هناك أحكاماً فقهية تختص بالعبيد والإماء، منها: أحكام تتعلق بجواز كشف العورات إلى حدود معينة، ومع ذلك جاء هذا الاستئذان؛ لأن هذه الأوقات كما سيأتي لها خصوصية معينة، والأطفال بطبيعة صغر سنهم قد لا يكترثون ولا يعبئون بالدخول والخروج، ولا يتنبهون إلى ما قد يقع من أثر ذلك من انكشاف العورات؛ لأن الناس يستصغرونهم، وهذا من بلايا ورزايا عصرنا الحاضر، أن كثيراً من الناس ينظر إلى الغلام، فيقول: إنه صغير وهو ابن خمس، ثم يقول: إنه صغير وهو ابن سبع، ثم ما زال يستصغره وهو ابن عشر، ثم تجد بعض الناس قد يكون الابن قد بلغ الخامسة عشرة وهو ما زال ينظر إليه على أنه صغير، وترى بعض النساء قد لا تتحرج منه ولا تحتجب منه، وهذا من التفريط.

وكذلك في أمر الفتيات والبنات؛ فإن كثيراً من الناس سهل عليهم الأمر ولم يراعوا مثل هذه الآداب، وتجد أنهم يستصغرون الفتاة وهي ابنة تسع وابنة عشر، وربما تكون أكثر من ذلك، وما يزالون يرونها صغيرة، لا يؤدبونها بالآداب الشرعية، ولا يلزمونها الحجاب ونحو ذلك.

ثم يقول القرطبي: علمهم هذا الأدب أن يستأذنوا على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة؛ لأنها الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها، وملازمة التعري.

أي: من عادة الإنسان أن يخلع ثيابه في تلك الأوقات، وقد يكون في وضع النوم أو نحو ذلك، فلا يتحرج من انكشاف عورته، فقبل الفجر وقت انتهاء النوم، وهو خروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار، ووقت ما بعد الظهيرة هو الوقت الذي يخلع فيه المرء ثياب النهار ويلبس ثياب البيت للراحة والقيلولة، وكذلك وقت ما بعد العشاء، فإنه وقت الاستعداد للنوم وتغيير الثياب، ولبس الخفيف منها مما لا يستثقله الإنسان، ولا يتحفظ منه في داخل بيته وبين أهله، فمن ثم جاء الاستئذان وتأكيده على هؤلاء الذين قد لا يكون الاستئذان عليهم واجباً في كل وقت، وإنما خص بهذه الأوقات لهذه المعاني.

وهذه وقفة أولى، وكما قلت: وقفاتنا متنوعة ولا يجمعها إلا هذه الثلاثيات، وفي الآيات غير هذا وإن كان غير مصرح به، لكني اكتفيت بهذه الآية.