ثم هم كذلك المنتدبون المجاهدون، منتدبون عن الأمة لهذه المهمة بنص القرآن الكريم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد بين ذلك وجلاه وأوضحه، إذ ليس كل أحد في الأمة يستطيع أن يتفرغ لطلب العلم ويتأهل له ثم يقوم بمهمة نقله وإشاعته وتعليمه والتربية عليه:{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[التوبة:١٢٢] قال الخطيب البغدادي رحمه الله في هذا المعنى كلاماً نفيساً جميلاً مفاده: أن الأمة ينتدب فيها فئتان: المجاهدون للحفاظ على حوزة الدين، والمعلمون للإبقاء على فهم ومعنى الدين.
وكان من قوله رحمه الله: إن الجهاد حماية لبيضة الإسلام بالدفاع عن المسلمين، والتعليم حماية للمسلمين بالحفاظ على الدين.
فمن أين سيخرج في هذه الأمة الأخيار والأبرار من المجاهدين، أو المنفقين الباذلين، أو المعاونين والمغيثين ما لم يكن قد غرست في نفوسهم وقلوبهم معاني هذا التعليم والتربية.
ثم لننظر كذلك إلى هذا المعنى من جهة أخرى، فهو أمر عظيم وأجره جزيل، وهو في الحقيقة -كما سماه العلماء-: جهاداً وهو جهاد عظيم، أي: جهاد العلم وجهاد التربية، فإن ذلك هو الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله في بيان ذلك: إنما جعل طلب العلم في سبيل الله -ونحن نعرف الأحاديث:(من ابتغى طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاًَ إلى الجنة) وقد وردت الأحاديث بأن طلب العلم من القصد والنهج إلى سبيل الله- لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنام، وجهاد بالحجة والبرهان: والجهاد بالحجة والبرهان هو جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظمة منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه، ثم استشهد بقوله جل وعلا:{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً * فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً}[الفرقان:٥١ - ٥٢] قال: وهذه الآية مكية لم يكن قد نزل فيها تشريع الجهاد، فدل على أن المقصود جهادهم بالحجة والبرهان بما جاء في آيات القرآن، وذلك هو جهاد الإقناع، والتعليم، ودحض الشبهات، وتزكية النفوس، والربط بالخالق سبحانه وتعالى، مما هو من أخص خصائص المعلمين.