للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شدة عمر رضي الله عنه في دين الله عز وجل]

أيها الإخوة المؤمنون! عندما نقف هذه الوقفات مع قوة عمر قد يقول القائل: فأين السماحة؟ وأين اللين؟ فأقول: قد أسرف الناس اليوم في أمر السماحة واللين وما يتصل بهما؛ حتى انقلب الأمر إلى مجاملات، ثم إلى مداهنات، ثم إلى منافقات، ثم إلى تنازلات، ثم إلى إعطاء الدنية في الدين، ثم إلى بيع الدين بالدنيا.

نسأل الله عز وجل العافية.

وكأني بـ عمر لو شهد مثل مواقفنا ومجتمعاتنا وأقوالنا لتفجر غيظاً من هذا التميع والتساهل والترخص بحجة إظهار سماحة الإسلام، والإسلام كله سماحة، وكله لين، وكله رفق، لكن فيه شدة، كما قال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:٢٩]، هذا وصف النبي الكريم ووصف صحبه رضوان الله عليهم، أفلا نرضى أن نأخذ بهذا الوصف؟ أفلا نجرؤ أن نقتفي آثار القوم، وقد كان عمر كذلك، وقد بين لنا حقيقة موقفه في شدته، ولم يدع لقائل مقالاً، ولم يدع لشبهة بقاءً، فإذا هو يخطب الناس عندما ولي أمره، فهو يعلم ما في قلوبهم من هيبته وشدته وقوته، وقد كان الناس في عهد أبي بكر يدنون منه؛ حتى إذا مشى في الطريق جاء صبيان المسلمين إلى أبي بكر يلاعبونه، فيمسح رءوسهم، وهكذا كانت سجيته: لين هين، أما عمر فكان الرجال يفرقون منه، ويتفرقون عنه، ويخافون عندما يرونه، وكانت هذه هيبته وشدته، لكنه جعل لكل شيء موضعاً، فقد رقى المنبر يشرح منهجه في القوة، وقال للناس مقالة عظيمة شرح لهم فيها موقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر من بعده فقال: (بلغني أن الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه؟!) إنه يتحدث بما يجول في خواطرهم، وبما يهجس في نفوسهم، فإنهم يقولون: عمر كان شديداً بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وغليظاً بين يدي أبي بكر، فكيف وقد صارت الأمور إليه، والأمر رهن إشارته؟! فإذا به يقول: (ومن قال ذلك فقد صدق، كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكنت عبده وخادمه، وكان لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، وكان كما قال الله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨]، فكنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه سيفاً مسلولاً حتى يغمدني أو يدعني فأمضي).

لقد كان رضي الله عنه رهن الإشارة وطوع الأمر، فإن دعته قوته إلى أمر وأجيز مضى، وإن منع وقف.

قال: (وكنت مع أبي بكر، وكان من لا تنفد دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدته بلينه، وأكون سيفاً مسلولاً حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، ورغم أني وليت أموركم أيها الناس! واعلموا أن تلك الشدة قد أُضعفت -أي: تضاعف، فتصوروا ماذا خالط قلوب القوم وهم يسمعون عمر يقول هذا؟ - ولكن إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، أما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يتعدى عليه؛ حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن بالحق -هذه هي القوة فانظر إلى اللين- وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف ولأهل الكفاف).

وقد كان عمر رضي الله عنه كما قال، فكان منهجاً في القوة فريداً، وكان يضع كل شيء في موضعه وضعاً عجيباً.