[تزكية النفس بالهمة العالية]
ننتقل إلى أمر آخر في تزكية النفس وهو: (الهمة)؛ لأن الذي أخلص لله لا تكفيه النية فقط، كما يقول بعض الناس: الإيمان في القلب!! أو يقول: أنا مؤمن بقلبي! هذا كله محض ادعاء.
إنما بعد النية لابد من الهمة في طلب الطاعات، ومعالي الأمور، ومرضاة الله سبحانه وتعالى، فيما يحبه جل وعلا وإن كان شاقاً، وإن كان مخالفاً للنفس.
ولذلك كلما أخلص الإنسان ارتفعت همّته في طلب الطاعات، والوصول إلى رضوان الله عز وجل.
والنفس بطبيعتها دنيئة، فما لم ترفعها بالهمة العالية، فإنها تبقى في الدرك الأسفل، راكنةً إلى الدنيا متلطخة بأوحالها وأوضارها، ومن جميل قول عبد الوهاب عزام: (إن الإنسان لابد أن يأخذ نفسه بالهمة ليرفعها حتى تُحلّق)، ويقول عن النفس: (إن لم تشغلها بالعظائم، شغلتك بالصغائر، وإن لم تُعملها في الخير، عملت في الشر، إن في النفوس ركوناً إلى اللذيذ والهين، ونفوراً عن المكروه والشاق، فارفع نفسك ما استطعت إلى النافع الشاق، ورُضها وسُسْها على المكروه الأحسن حتى تألف جلائل الأمور وتطمح إلى معاليها، وحتى تنفر عن كل دنيئة، وتربأ عن كل صغيرة، علّمها التحليق تكره الإسفاف، عرّفها العز تنفر من الذل، وأذقها اللذات الروحية العظيمة تحقر اللذات الحسية الصغيرة).
متى ما ذاق الإنسان لذة الإخلاص والطاعة علت همته في مثل هذا، ولذلك يقول ابن القيم في فوائده: (الكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية -مع العمل القليل- أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق!!).
فهذا ينبغي أن يفطن له الإنسان المؤمن، وهذه التزكية والهمة لها آثارها الحسنة بلاشك، التي فيها نور القلب، كما قال بعضهم: (استجلب نور القلب بدوام الجد).
أي: باستحضار الهمة والجد في الطاعات.
ثم إذا جاءت الهمة، فأي باب من الأبواب تصرف فيه الهمة؟! أول باب من أبواب الهمة، وهو أعظم باب في الأمور العملية باب الفرائض، وأدائها، والمحافظة عليها، وكمالها، وقد يقول قائل أيضاً: إن الفرائض أسهل الأمور، يعني أن كل أحد مقبل عليها ومطبّق لها.
فنقول: نحن نحتاج إلى فقه في مثل هذا الأمر، لندرك أثر هذه الفرائض في التزكية، وكيف يكون كمالها، ليحصل كمال التزكية.
يقول بعض السلف: (لم يضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن، ولم يبتل أحد بتضييع السنن إلا أوشك أن يبتلى بالبدع!!).
فانظر إلى هذا التدرج، كم في التزام الفرائض من وقاية للقلب من مثل هذا الزلل والزيغ؟! نسأل الله -سبحانه وتعالى- السلامة، والحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال يؤكد أهمية الفرائض، وهو قوله جل وعلا في الحديث: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه).
وأيضاً يوجد حديث عجيب يبين لنا أهمية هذا الأمر، والحاجة إليه، وأن القضية تحتاج إلى كمال في أداء الواجبات، والله جل وعلا ما قال: صلوا! وإنما قال: (أقيموا الصلاة)؛ لأن قيامها يحتاج إلى أمور كثيرة، يقول أبو الدرداء: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يُختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدرون منه على شيء.
فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يُختلس منا وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنه ولنقرئنه أبناءنا ونساءنا -فلم يفهم زياد إلا مجرد الظاهر- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا زياد! إن كنتُ لأعُدّك من فقهاء أهل المدينة! هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟! قال جبير بن نفير -راوي الحديث-: فلقيت عبادة بن الصامت فقلت له: ألا تسمع ما يقوله أبو الدرداء؟! قال: صدق، إن شئتَ حدثتك بأول علم يرفع من الناس، الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه خاشعاً) رواه الترمذي.
إذاً: أليست الفرائض بحاجة إلى أن تكون أول زاد يُقبِل به العبد على الله سبحانه وتعالى، تزكية لنفسه مع استكمالها، والإتيان بها على وجهها؟! والذي يتأمل يجد النصوص في أمر الفرائض كثيرة، فإن هذه الفرائض -من حكمة الله- هي أعظم ما يزود القلب والنفس بالخير، والتزكية والتطهير، مثلاً: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة).
والآثار، والأذكار، والأحاديث الواردة في أمر الصلاة، وفضل شهودها في الجماعات كثيرة جداً.
لماذا كل هذا التقديم والتفضيل والتعظيم؟ إنما هو لما لها من عظيم الأثر، والفوائد الكثيرة، وهناك شواهد يحتاج الإنسان أن يتأملها في سيرة السلف؛ حتى ندرك هل نحن قائمون بالأمر كما يجب؟! قيل للأحنف بن قيس: إن فيك أناة شديدة -يعني: تُؤَدة وبصيرة وتروّي- فقال: قد عرفت من نفسي عجلة في صلاتي إذا حضرت حتى أصليها!! وهذا المعنى يمر علينا مرور الكرام دون أن نتأمل فيه، لكن لو تأملنا: هل يعجل الإنسان إلى صلاته إذا حضرت؟! وأنا هنا أخاطب كثيراً من الملتزمين، والوعاظ، والطيبين، والصالحين فضلاً عن غيرهم، فتجد الواحد منا حين يؤذن المؤذن يقول: ما زال هناك وقت إلى الإقامة!! وما تأتي فريضة من الفرائض إلا وتجد هناك جمعاً ليس بالقليل يقومون لقضاء ما فاتهم من صلاتهم.
واستمع إلى ما قيل في وصف إبراهيم بن ميمون في سمته، قالوا: كان فقيهاً، وكانت صنعته الحدادة، قال ابن معين: كان إبراهيم بن ميمون إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردّها!! ولم يكمل طرقته.
انتهى الأمر الآن، وانتقل من حال الدنيا إلى حال الآخرة، سارع إلى الطاعات وأجاب نداء الفريضة.
هذا السِّباق هو الذي يؤهل النفس لأن تقبل على الطاعة، وأن تكون مهيأة بفراغ الوقت، وفراغ العقل من الشغل، والتقرب بالتلاوة والذكر والاستغفار والدعاء.
إذا أراد أحدنا أن يحضر مناسبة أو وليمة، هل يذهب دون أن يتفقد هيئته ولباسه وسمته؟! ثم هل يذهب متأخراً لا يبالي هل يدرك الوليمة أم لا؟! فكما أننا نتهيأ لمثل هذه المناسبات -بل ونسارع إليها- فالأجدر بنا أن نولي أعمال الآخرة اهتماماً أعظم!! ولو تأملنا سير السلف وشدة مسارعتهم إلى الطاعات لرأينا أن الفرق بيننا وبينهم كما بين الثرى والثريا.
هذا بشر بن الحسن يُلقّب بالصَّفي -نسبة إلى الصف- لماذا؟ قالوا: لأنه لزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة.
وربما لو أراد أحدنا أن يواظب على الصف الأول خمسين يوماً لعجز عن أن يتم نصف هذه المدة!! بل كم من المرات تفوتنا الجماعة ثم نصلي متأخرين أو منفردين.
واسمع إلى سليمان بن حمزة المقدسي ماذا يقول عن نفسه؟! يقول: لم أُصلّ الفريضة قط -منفرداًً- إلا مرتين، وكأني لم أصلّهما.
بينما ربما نحن في اليوم الواحد أحياناً نصلي الفريضة منفردين مرتين أو أكثر، والجاد منا قد يصلي الفريضة في الأسبوع مرتين أو أكثر منفرداً!! سيما الفجر أو بعض الفروض، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة.
المقصود: أن تكون الهمة والخشوع على أتمّ وجه وأكمله في الصلاة وكذا في بقية الطاعات، فليس المقصود -فقط- الظواهر التي تبدو للناس.
ولذلك فَقِهَ السابقون هذا الأمر، فقد روي عن أحدهم أنه قال: (إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه) أي: إذا تهاون في التكبيرة الأولى -تكبيرة الإحرام- مع الإمام، فاغسل يدك منه.
يعني: أنه ليس على رسوخ في الطاعة، والإقبال، والإخلاص، والتزكية لنفسه كما ينبغي أن يكون.
وهذا الأمر لا شك أنه ظاهر من حيث المعنى الظاهر والحكم، لكننا نفتقد كثيراً من جوانبه من حيث التحقق التام والكامل.
والحق أن المجالات المتبقية من التزكية فيها من النصوص والقول والتطويل شيء كثير، ولها أهميتها العظمى والكبرى، فبعد أداء الفرائض هناك النوافل، وقيام الليل على وجه الخصوص؛ لأن فيه خلوة، والخلوة يحلو فيها الذكر، والذكر من المواضيع المهمة، ومن أهم أبواب الذكر ذكر الآخرة والموت، وهو من أعظم أسباب حياة القلوب.
ومن بعد ذلك كله تزكية النفس في معاملتها مع الآخرين ومع الناس أجمعين، ثم آثار هذه التزكية، وليس من الممكن مطلقاً أن نوجز القول فيما بقي من هذه الأمور المهمة؛ لأن طيّها والعجلة فيها يبخسها حقها، ويحرمنا من نفعها في الحقيقة، خصوصاً وأنها تتعلق بكثير مما نحتاج إليه جميعاً.