[السبب السادس: الخوف وحب السلامة]
حب السلامة يثني عزم صاحبه عن المعالي ويغري المرء بالكسل المؤمن الصادق لا يخشى في الله لومة لائم، لا يعني ذلك أن يكون متهوراً، بل هو أولى الناس بالحكمة، لكن لا يذل نفسه، ولا يبيع مبدأه ولا يغير منهجه، ولا يساوم في دينه بحال من الأحوال.
وحسبك عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، الذي أعطى الكلمة ثمنها وقيمتها العظمى عندما ساومه ملك الروم وهو في الأسر على أن يعطى نصف الملك أو أن يعطى الملك كله في مقابل كلمة كفر، ثم إن ملك الروم أخرج أسيرين من المسلمين واحداً إثر واحد وغمسهما في زيت مغلي، يدخل أحدهما لحماً ويخرج عظماً أمام عيني عبد الله بن حذافة السهمي، ليخاف ويؤثر السلامة ويعطي الدنية في دينه، ويخرج الكلمة الذليلة التي يأباها قلب المؤمن الحر، فلم يرض بذلك، حتى كان مقابل الكلمة أو الموقف مصلحة المسلمين دون تغيير في مبدأ ولا مساومة على دين فأعطاها، فقال عمر رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة.
وقام عمر -وهو من هو- وقبل رأسه أول الناس.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام حديثاً عظيماً جليلاً، قال: (أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) كلمة حق عند سلطان جائر، لم يخش قائلها السيوف المصلتة، ولا المصير المظلم، ولا السجون المنتظرة، ولا السياط الملتهبة، بل إنه ينظر إلى الحق الذي يرفعه، وما أعظم موقف الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه عندما قدر الكلمة والموقف، فجاءه من جاءه من أصحابه يسهل عليه أن يقول كلاماً يسلم به ولا يسلم دينه، وقال له: إن لك أبناء وإن لك عيالاً وكذا.
فقال له: إن كان هذا عقلك فاسترح.
وجاءه آخر فقال له نحو ذلك القول، فقال له: انظر إلى من وراءك.
فنظر فإذا الجماهير الغفيرة كل واحد آخذ دواته وقلمه يريد أن يكتب كلمة ابن حنبل ويأخذ بها.
فقدر هذا الموقف ولم ترهبه السياط ولا الوعد ولا الوعيد، وانظر إلى ذلك العالم من علماء سلف هذه الأمة عندما كان يجرى له عطاء من بيت مال المسلمين، وهو يحدث الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءت الفتنة امتنع عن موافقة الباطل، فقال له الخليفة: إذن نقطع عنك جرايتك.
فأخذ بزر قميصه فخلعه، وقال: ما دنياكم التي تحرصون عليها إلا كمثل زري هذا.
قال بهذا الكلام في وجه الخليفة، هنا يكون للكلمة قيمتها وللموقف أثره، ولذلك علق الخطابي على حديث: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) فقال: إنما كان هذا أفضل الجهاد لأن من جاهد العدو كان على أمل من الظفر بعدوه.
ثم قال: ولا يتيقن العجز عنه؛ لأنه لا يعلم يقيناً أنه مغلوب.
وهذا الذي يقول كلمة الحق عند السلطان الجائر يعلم أن يد السلطان أقوى من يده، فصارت المثوبة فيه على قدر عظم المئونة.
ثم قال الخطابي معلقاً أيضاً: ليت شعري من الذي يدخل اليوم على الملوك الجائرين والسلاطين الباغين فلا يصدقهم على كذبهم؟! ومن الذي يتكلم بالعدل إذا شهد مجالسهم؟! ومن الذي ينتصح منهم إن نصحوا؟! إذاً اجتنابهم هو أسلم لك -يا أخي- في هذا الزمان، وأحوط لدينك أن تقل من مخالطتهم وغشيان أبوابهم، ونسأل الله الغنى عنهم والتوفيق لهم.
هذا في زمان الخطابي، وهو متوفى في القرن الرابع الهجري، فكيف وقد فشا في كثير من بلاد الإسلام جور وظلم، بل حكم بغير شرع الله عز وجل؟! وذكر أيضاً عن بعض الحكماء أنه قال: إن الذي يحدث للسلاطين التيه في أنفسهم والإعجاب بآرائهم كثرة ما يسمعونه من ثناء الناس عليهم، ولو أنهم أنصفوهم فصدقوهم على أنفسهم لأبصروا الحق، ولم يخف عليهم شيء من أمورهم.
ولذلك قال صاحب الظلال في شأن فرعون: كيف يمكن لفرعون واحد في الأمة أن يتحكم في مصائرهم؟! قال: ليس هذا من فعله، ولكنها الأعناق مدت له فجر، والظهور حنيت له فركب، وأسعفه من حوله من أهل الملأ ووافقوه على مقالته: لا أريكم إلا ما أرى.
وهكذا تأتي هذه الكلمة في موضعها فتكون من أفضل الجهاد، فإذاً: من الأسباب التي تمنع من الكلمة الصادقة وتحرفها عن مسارها الخوف وطلب السلامة.