الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! المسئولية العمرية معلم بارز من معالم السيرة العمرية النورانية، وقد وقفنا من قبل مع قوة عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه، فلننظر إليه اليوم وهو يتحمل أمانة الله عز وجل، وهو يتكلف مسئولية الأمة كلها، فكيف تأهل عمر لهذا المنصب الرفيع، إنه لم يتقدم إليه بنفع من قرابة، ولا بدفع من وساطة، وإنما كان إيمانه في قلبه، ويقينه في فؤاده، وبلاؤه في نصرة دين الله عز وجل، وحفاظه على الأمة، وغيرته على الدين، وشدته على الأعداء، إلى غير ذلك من المواصفات العظيمة التي كانت مؤهلاً لأن يتسلم هذا المنصب الرفيع في أمة الإسلام، وأن يكون خلفاً لـ أبي بكر الذي كان خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
لما اشتد المرض على أبي بكر رضي الله عنه دعا بعض الصحابة من المهاجرين والأنصار، وقال:(اختاروا لكم أميراً من بعدي؛ فإنكم في حل من عقدي وبيعتي، وأوشك أن أنتقل إلى ربي)، فلم يجتمع أمرهم على أحد، وقالوا:(قد فوضنا الأمر إليك يا أبا بكر، فنظر أبو بكر فيمن صحب محمداً صلى الله عليه وسلم فوجدهم كلهم أصحاب فضل وسبق، وكلهم أصحاب جهاد وبلاء، وكلهم أصحاب بذل وعطاء؛ فإذا به يقلب الأسماء اسماً اسماً، وإذا به يتصفح الوجوه وجهاً وجهاً، وإذا به يستنطق التاريخ حدثاً حدثاً ويوماً يوماً، وإذا به يستقر رأيه على عمر رضي الله عنه، ثم ينطلق مستشيراً أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كانت الشورى منهجاً نزل في القرآن وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المسدد بالوحي من الرحمن، وسار على إثره من بعده صحابته رضوان الله عليهم، فأي شيء قيل عن عمر؟ دعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف ليسأله عن عمر؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: (ما تسألني عن أمر وأنت أعلم به مني؟) أي: لا يوجد رجل أخبر بـ عمر من أبي بكر، لكن أبا بكر أراد أن يستفرغ جهده في النصح للأمة وتحمل المسئولية في أمر هو من أعظم أمورها وأخطر قضاياها، فقال:(وإن يا عبد الرحمن؟!) أي: وإن كنت به خبيراً فإني أقضي في توليته مستشيراً، فأجاب عبد الرحمن بكلمات موجزات، وقال:(هو والله! أفضل من رأيك فيه)، ولعمري إنها لكلمات عظيمة؛ فأي رأي لـ أبي بكر في عمر؟ إنه رأي التقدير والتعظيم لرجل قد ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام في شأنه على وجه الخصوص ما ذكر، ثم دعا أبو بكر رضي الله عنه عثمان بن عفان رضي الله عنه واستشاره، فقال عثمان:(علمي به: أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله)، ثم دعا أسيداً وبعض الأنصار، فقال أسيد:(اللهم أعلمه الخيرة بعدك)، ثم قال عن عمر:(يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن)، ثم قال مقالة واضحة جلية في أهلية عمر:(ولن يلي الأمر أحد أقوى عليه منه)، وكان الأمر كما قال، فاستقر رأي أبي بكر على عمر، فتكلم بعض الناس في أمر عمر وشدته وقالوا: أتولي بعدك عمر؟! أما تخاف الله يا أبا بكر؟! فأمر أبو بكر أن يجلس، وكان قد أقعده المرض، وقال: أبالله تخوفونني؟! والله لئن سئلت لأقولن: وليت على أمة الإسلام خيرهم)، وكان يرى ذلك أبو بكر والصحابة رضوان الله عليهم، واستقبل عمر رضي الله عنه الخلافة في صبيحة الثلاثاء بعد دفن أبي بكر وانتقاله إلى الدار الآخرة ليلقى ربه ومولاه.