[التزكية والعصمة]
بعض الناس يقول: نسمع أحدهم يقول: فلان لا نزكيه على الله، ثم يطنب في مدحه، وفي حقيقة الأمر أنه لا يرد له قولاً، ويوافقه على كل شيء، ولا يسمع إلا منه، ولا يقبل إلا منه.
لا شك أن التزكية في الأمر الظاهر مشروعة ومطلوبة، وكذلك مطلوب معرفة العالم والداعية وصاحب الخير، لكن النبي عليه الصلاة والسلام هو المعصوم، وغيره كل يأخذ من قوله ويرد، وينبغي ألا يكون هذا الأمر مجحفاً، ولا فيه نوع من المبالغة في مثل هذا الأمر؛ لأن هذا فيه نوع من تقليد المرء دينه الرجال، وأن كل ما قال هذا فهو صحيح.
وقد أشرت في الدرس الماضي إلى أن من الأخطاء: المبالغات التي تجعل الناس في حيرة واضطراب، أو التي تجعلهم عند المقارنة والتمحيص لا يجدون هذا التطابق بين القول المبالغ فيه وبين الحقيقة الواقعة، فلا بد أن ننتبه لمثل هذا، وأن نتجنب مسألة التعصب أو التزكية المطلقة.
وقفة سريعة ومهمة في نفس الوقت مع بعض الأساليب التي يقع فيها الناس، أو يلبس عليهم أن فيها مسوغات شرعية، فإذا أراد القدح قال: فلان هداه الله، ثم حط عليه حطاً منكراً، أو فلان جزاه الله خيراً وبارك فيه، ثم بعد ذلك كأنه يرى أن مثل هذا القول مسوغاً للذي بعده من القدح، وهذا لا شك أنه من الخطأ الكبير.
وأيضاً يلتبس على الناس أحياناً مسألة إحقاق الحق، وأن الحق أحق أن يتبع، فيستبيح لمثل هذا أعراض الآخرين، ويتعصب ضدهم، وينبزهم بما ليس فيهم، أو بما هو فيهم، لكنه ما استخدم الطريق المشروع في إزالته أو إبلاغهم إياه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: فمن الناس من يغتاب موافقةً لجلسائه وأصحابه وعشائره، وقد ذكر بعض الإخوة عين هذه المسألة، فقال: إن بعض الشباب يجتمعون في مجالسهم ليس لهم هم إلا أن ينتقدوا الآخرين، سواءً من أقرانهم أو من الدعاة أو من العلماء، بل حتى تناولوا بعض علماء الأمة الذين قد أفضوا إلى ما قدموا، وأبلوا في نصح الأمة بلاءً حسناً، وذكر السائل أمثال النووي وابن حجر رحمة الله عليهما.
فتجد بعض الناس مجالسهم تفكه بأعراض الناس والعياذ بالله، ودوام النقص الذي لا يلتفت إلى الخير، ولا يبني ولا يوجه إلى العمل، بل هو نوع من الأسباب المفضية إلى قسوة القلب، وإلى انطماس نور البصيرة، وإلى قلة الفقه في الدين، وإلى ذهاب الورع والخشية والتقوى لله عز وجل؛ ولذا أشرت فيما مضى إلى ما ذكره ابن القيم في فوائده حيث يقول: إن أعلى الهمم، همة طلب علم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن أخس الهمم في طلب العلم تتبع شواذ المسائل، والمسائل المختلف فيها، قال: وقل أن يفلح من أخذ بهذا السبيل.
وهذا في العيان وفي الواقع ظاهر، والدليل عليه واضح في كثير من الحالات.
ويقول: شيخ الإسلام ابن تيمية: فمن الناس من يغتاب موافقةً لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون فيه، أو فيه بعض ما يقولون، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم لقطع المجلس، واستثقله أهل المجلس، ونفروا عنه، فيرى أن موافقتهم من حسن المعاشرة، وطيب المصاحبة، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم، فيخوض معهم.
ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله، ويقول: والله إنه مسكين، أو رجل جيد، ولكن فيه كيت وكيت، وربما يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه وهضم جنابه.
ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك، كما يخادعون مخلوقاً.
وقد رأينا منهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه، ومنهم من يرفع غيره رياءً، فيرفع نفسه فيقول: دعوت البارحة في صلاتي لفلان لما بلغني عنه من كيت وكيت، ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقد فيه، أو يقول: فلان بليد الذهن، قليل الفهم، وقصده مدح نفسه، وإثبات معرفته، وأنه أفضل منه، فتسأله ما رأيك في فلان؟ فيقول: ليس عنده كذا وكذا؛ ليبين أن عنده غير الذي عند غيره.
ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة، فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة والحسد، وإذا أثني على شخص عنده أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح، أو في قالب حسد وفجور وقدح ليسقط ذلك عنه.
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب السخرية واللعب؛ ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزئ به.
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، وهذا كثير، فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت! ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت! لكن صيغة هذا الكلام يدل على القدح، هذا كلام شيخ الإسلام في مثل هذه الصور التي ابتلينا بكثير منها، نسأل الله سبحانه وتعالى العافية!