ما أجل هذا الموسم! تحيا به القلوب، وتزكو به النفوس، وترشد به العقول، وتستقيم به الجوارح على طاعة الله سبحانه وتعالى، وكلنا يدرك ذلك، فكم لهذا الشهر من خصيصة تربطه بالقرآن، كما قال عز وجل:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة:١٨٥].
وكلنا يعلم كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا فيقول:(كان جبريل يدارسني القرآن في كل رمضان)، إنه موسم هذا الكتاب العظيم، إنه موسم الآيات القرآنية التي فيها تقويم كل معوج، وسداد كل نقص، وصواب كل رأي، وهداية كل أمر، فكم نحن غافلون عن كتاب ربنا، مبتعدون عن نور آياته، مبتعدون عن أضواء هدايته، غافلون عن الخير الذي ساقه الله عز وجل لنا فيه! لقد جاءت مرة أخرى فرصة عظيمة ينبغي لكل مؤمن عاقل أن يستثمرها، وأن يستغلها، وأن يدرك عظمة الاختصاص في وجوه كثيرة قد ذكرنا بعضاً منها، وبعضها تحكيه روايات وأحاديث أخرى، ومنها حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:(الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب! منعته الطعام والشهوات في النهار، ويقول القرآن: أي رب! منعته النوم في الليل، فيشفعان فيه)، فما أعظم هذان الشفيعان الملتقيان في شهر رمضان، فنحن في شهر رمضان صائمون، ونحن في شهر رمضان للقرآن تالون، فنحن نجمع الشفاعتين معاً، ونزجيهما بين يدي الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، فإذا تعرضنا للرحمة نفحنا منها، وإذا تعرضنا لمغفرته أصابنا بها، وإذا تعرضنا لرضوانه أكرمنا الله جل وعلا به، فما بالنا مرة أخرى نقصر ونفرط؟ وفي حديث الترمذي من رواية النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إن في الجنة غرفاً ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقال أعرابي: يا رسول الله! لمن هي؟)، أي: لمن هذه الغرف التي يصفها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وصفاً تشرئب إليه الأعناق، وتتوق إليه القلوب، وتتعلق به النفوس المؤمنة؟ (فقال صلى الله عليه وسلم: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله بالليل والناس نيام)، وكلها في شهر الصيام، كلها في تفطير الصائمين، كلها في هذه الكلمات الطيبة التي نتحدث بها ونمسك فيها عن قول الباطل، قال صلى الله عليه وسلم:(من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، فإن سابه امرؤ أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)، وكل هذه تتحقق في هذا الشهر، فكأنها أيضاً بشارة نبوية مصطفوية لمن يريد بلوغ تلك الغرف العالية التي وصفها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
والأمر أوسع من ذلك، والأبواب مفضية إلى صلة الصيام بالقرآن، وإلى صلته بالجنان أكثر تنوعاً، وأعظم من أن يحيط بها حديث قصير في مثل هذا المقام، ولكننا أيضاً مرة أخرى نقول مذكرين: هل القرآن هو الآيات التي تتلى هذاً كهذ الشعر من غير تدبر ولا تذكر، ولا تأمل في المعاني، ومن غير التزام وامتثال وتطبيق للأوامر، ومن غير اجتناب ومباعدة ومفارقة للنواهي؟ وكيف يكون حالنا؟ وهل نريد أن يكون القرآن حجة علينا أم لنا؟ وما بالنا ونحن نقرأ آيات القرآن ونجد كثيراً من المفارقات بين ما يأمرنا به وبينما نفعله، وبينما ينهانا عنه وبينا نقترفه؟ إنها فرصة كذلك لنجعل المطابقة بينما جاء في الآيات التي تُتلى وبين الواقع الذي نعيشه، والعمل الذي نمارسه، والقول الذي نتلفظ به.
ولذلك فإن القرآن العظيم اليوم في واقع أمتنا يحتاج منا إلى قراءة بالقلوب، وتدبر بالعقول، يصطحبان معاً مع تلاوة الألسنة، وكم نحتاج أن نتلو الآيات وأن نختم الأجزاء! ولكن ينبغي أن نجعل لنا حظاً من التلاوة مخصوصاً بالتدبر والتأمل فيما هو حالنا وفيما عليه وما أمرتنا به آيات ربنا، فإنها فرصة تدبر عظيمة، فنحن نقرأ قول الله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات:١٠]، ثم لا تتحقق أخوتنا، وتتنافر قلوبنا، وتتقاطع صفوفنا، ونجد من أحوالنا نفرة وفرقة عجيبة لا يصح ولا يقبل أن تكون بين أهل إيمان وإسلام، وأهل صلاة وصيام، وأهل حج وعمرة، وأهل وحدة جامعة، ونحن نرى ما يحل اليوم في هذه الساعات وفي هذه الأوقات، وفي مفتتح هذا الشهر بإخواننا في أرض فلسطين، وإخواننا في أرض العراق! فأين نحن من الآيات التي تذكرنا بالوحدة؟! وأين نحن من الآيات التي توجب علينا النصرة؟! وأين نحن من الآيات التي تذكرنا بأننا أمة واحدة؟! وأين نحن من واجباتنا ليس في دائرة صغيرة ضيقة، بل في الدائرة الرحبة الواسعة مع بداية هذا الشهر، ومع بداية تلاوة القرآن، ومع بداية ختمة وافتتاح ختمة ينبغي أن نشعر وأن نتذكر وأن نتواصى بأن نجعل القرآن منهج حياة في كل صغيرة وكبيرة، فيما هو محيط بنا، وفيما هو بعيد عنا، فيما هو يخصنا كأفراد، وفيما يخصنا كأمة مسلمة كاملة.