للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مباشرة عمر رضي الله عنه للمسئولية بنفسه]

بدأت ملامح القيادة العمرية والتصوير الدقيق لعظمة وأهمية ودقة المسئولية في صورة عملية تكررت في كل لحظة من اللحظات، وفي كل ليلة من الليالي، وفي كل يوم من الأيام عبر عشر سنوات طوال امتدت فيها خلافة عمر رضي الله عنه، ولم يكن الأمر كلاماً وثناءً، ولم يكن قولاً وادعاءً، وإنما كان ممارسة وتطبيقاً تنظر إليه الأمة كلها في شرق الأرض وغربها، عبر مرور الزمان، وعبر تغير المكان، فالكل رأى هذه الصورة المشرقة الوضيئة لمسئولية عمر، ولقيادة عمر، ولنموذج الحاكم المسلم الذي ضرب أمثلة رائعة في شتى المجالات يقصر حديثنا دونها، وتضيق مقاماتنا عن استيعابها، وتقل طموحاتنا وخيالاتنا في هذا العصر الذي تخلفت فيه أمتنا عن أن ندركها أو نتصورها.

فكان أول أمر عمر هو أول أمر ينبغي أن يبدأ به كل مسلم في كل عمل وكل مسئولية صغيرة كانت أو كبيرة، إنه أمر الاستعانة بالله عز وجل، إن المرء ضعيف بنفسه، قليلة حيلته، ذاهبة خبرته ما لم يسدد من الله سبحانه وتعالى، ولقد كان عمر من أعظم الناس اتصالاً بالله، وأعظمهم ارتباطاً وخشية وخوفاً من مولاه، فلما تلقى الأمر ولما تحمل المسئولية كان أول ما قال دعاءً يستعين الله سبحانه وتعالى فيه على أن يعينه، فقال: (اللهم إني ضعيف فقوني، اللهم إني غليظ فليني، اللهم إني بخيل فسخني)، فكان عمر يرى في أمر نفسه شدة، وكان يريد لنفسه في أمر أمته أمراً يحبه الله عز وجل ويرضاه، ثم قال عمر: (لو علمت أن أحداً أقوى على هذا الأمر مني لكان ضرب العنق أحب إليَّ من أن ألي هذه الولاية)، أي: لم تكن فرصة أو غنيمة اكتسبها، ولم يكن شرفاً كان يسعى إليه، ولم يكن أمراً من الفخر كان يتطلع إليه، بل كانت مسئولية عظيمة ناء بها ظهره، وأشغلت ليله ونهاره.

ولذلك بدأ عمر يرسم ملامح المسئولية، وأولها: المباشرة والمشاركة، فلم يتخذ عمر أبواباً، ولم يتخذ حجاباً، ولم يجعل بينه وبين الناس باباً، ولذلك كان أول مجلس جلسه في بداية سياسته أنه بين للناس ما ينبغي أن يؤدى من الرعية للراعي، ومن الراعي للرعية في فقه إيماني عمري، قال فيه عمر رضي الله عنه: (الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى إلى الله عز وجل، فإذا ركع ركعوا)، بين في هذا أن أمر الصلاح متعلق بصلاحه؛ لأنه القائد والحاكم والآمر والناهي، فإن أدى حق الله وإن خاف الله انعكس ذلك في رعيته، ثم قال للناس: (والله! لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني شيء من أمركم فآلوا فيه عن أهل الصدق والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم، ما يكون من أمر بين يدي إلا وأكون أنا الذي أتولاه، وأنا الذي أباشره، وأنا الذي أشارك فيه، لا أكون بعيداً عنكم، ولا مترفعاً عنكم، ولا مبتعداً عن أموركم)، أي: أنه سوف يباشر ذلك بنفسه رضي الله عنه وأرضاه.

ولقد طبق ذلك؛ فكان عمر بنفسه يطعم ويسقي، ويسأل ويفصل، ويقضي ويحكم، ويعس ويستقضي، وكان يذهب كل مذهب، حتى قال فيه الصحابة: لقد أتعبت من بعدك يا عمر! ثم إنه لم يخلد إلى الراحة، ولم يسكن إلى الاستراحة، وإنما كان الأمر عنده مسئولية عظيمة، فهذا معاوية بن خديج يأتي من مصر في زمن عمر يبشره بالفتح ودخول الإسكندرية، فوافى المدينة في وقت الظهيرة، فأتى إلى بيت عمر ناحية مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجده فيه، فدخل إلى المسجد، فلما قدم عمر قالوا: رجل من مصر يسأل عنك، فذهب إلى المسجد فدعاه إلى بيته، ثم قال له: (ما قلت يا معاوية! إذ لم تجدني؟) يعني: أي ظن دار في خاطرك؟ فقال معاوية: (قلت: إن أمير المؤمنين قائل)، أي: نائم في وقت القيلولة، فقال عمر وقد ضرب على صدره: (بئس ما ظننت؛ والله لئن نمت النهار لأضيعن رعيتي، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي!) قالوا: وكان عمر لا ينام إلا غراراً من ليل أو نهار.

أي: خفقات يخفقها، لا يطمئن فيها قلبه، ولا يغمض جفنه؛ لأنه يرى أنه تحمل مسئولية الصغير والكبير، وشرق الأرض وغربها، والجنود والرعية كلها، فكان لا يرى هذه الراحة ولا يأنس بها؛ لأن في قلبه هماً عظيماً يشارك فيه الأمة في كل مأساة من مآسيها، وفي كل مصيبة من مصائبها، وفي كل حاجة من حاجاتها.