[المنفق والبخيل عند الله]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله عز وجل أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى البذل في سبيل الله، وأقف بكم مع مثل ضربه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليبين لنا صورة البذل وصورة البخل، ولنستخرج من هذا المثل الآثار النفسية والحسية والدنيوية والأخروية لأمر البذل من جهة، ولأمر البخل من جهة أخرى.
في صحيح البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما) أي: هذه الحلة سابغة وضيقة، وحسبك بهذا الوصف والتشبيه الأولي، ثم انظر إلى أثر البذل وأثر البخل، يقول: (فكلما هم المتصدق اتسعت بصدقته-أي: توسعت وتفسحت عليه- حتى تغشى أنامله -أي: تطول حتى تصبح قد وصلت إلى أنامله- وتعفو أثره) أي: كلما مشى كان طولها يمحو الآثار من وراءه.
ومعنى هذا التشبيه: أن هذه السعة هي سعة الرزق، وسعة النفس، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر، وهي السماحة واليسر، وهي التوفيق والسداد، وكأن المسلم المنفق إذا وفقه الله كلما رفع حجراً وجد تحته ذهباً، وكلما طرق باباً وجد وراءه رزقاً، إنه وعد من الله عز وجل ووعد من رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما نقص مال من صدقة).
فالجبة تتسع على المنفق حتى تعفو أثره، ومعنى عفو الأثر في هذا الحديث: محو الآثام والسيئات.
قال: (وما يزال البخيل يبخل، وكلما همَّ بصدقة ثم امتنع عنها قلصت عليه -أي: هذه الحلة أو الجبة- وضاقت كل حلقة بمكانها) أي: تضيق ضيقاً شديداً، فإذا بهذا الضيق هو ضيق في الرزق، وضيق في الصدر، وضيق في الحال، وضيق في السعادة، فلا تجد إلا هماً متراكباً، ولا تجد إلا فقراً متتابعاً، ولا تجد إلا غضباً متوالياً، وهذا أثر من آثار ترك الإنفاق في سبيل الله عز وجل، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: فلو رأيته -أي: عليه الصلاة والسلام- يوسعها فلا تتسع.
فالذي لا ينفق يريد أن يبحث عن أبواب الرزق ويريد أن يزيد من المال، فإذا بالله عز وجل يسلط عليه من النكبات ما يمحق بركة المال ويذهب أثره الذي ينتفع به، وإن لم يحصل شيء من ذلك أو كثير منه فالعاقبة الأخروية جديرة بالمؤمن أن يتأمل فيها، وأن يفكر فيها، وانظر إلى ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:٨ - ١٠].
وتأمل كيف يكون التيسير للعسر، فإن الله جل وعلا يجعل ذلك بصور وأشكال قد يفقهونها وقد لا يفقهونها، والله جل وعلا يقول: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:١٨٠]، فلا تظنه خيراً لك بأن يزداد رصيدك، وتؤمّن مستقبلك، بل هو شر لك إن لم تخرج حق الله، وإن لم تحرص أن تغالب نفسك لتنفق أكثر في سبيل الله.
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه، بل هو مضرة عليه في دينه.