للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[قمة في الجهاد]

لعلنا أن نقف وقفةً يسيرةً فيما يتصل بالجهاد وأسلافنا وما كانوا عليه فيه، وهو أمر عظيم، وبابه واسع، ولكن نذكر بعض ذلك.

قال ثابت في شأن صلة -وهو من التابعين-: إن صلة كان في الغزو ومعه ابنه، فقال: أي بني! تقدم فقاتل حتى أحتسبك.

يقدم ولده للموت وللشهادة حتى ينالها، وحتى يصبر هو فيحتسب أجره، فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم صلة فقتل، فاجتمع النساء عند امرأته معاذة، فقالت: مرحباً إن كنتن جئتن لتهنئنني، وإن كنت جئتن لغير ذلك فارجعن.

فكانت تطلب التهنئة على شهادة زوجها وابنها.

وخالد بن الوليد علم المجاهدين القواد من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، كان يقول: ما ليلة يهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب؛ أحب إليّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية أصبح فيها العدو.

فكان هذا دأب تعلقهم ومحبتهم ورغبتهم في الجهاد في سبيل الله.

وقصة الخنساء وأبنائها الأربعة مشهورة في ذلك، لما قالت لهم: يا بني! إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم، والله ما نبت بكم الدار، ولا أقحمتكم السنة، ولا أرداكم الطمع، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا غيرت نسبكم، ولا أوطأت حريمكم، ولا أبحت حماكم، فإذا كان غداً إن شاء الله فاغدوا لقتال عدوكم مستنصرين بالله.

فانصرفوا بعد وصية أمهم، وشدوا على العدو، وكان كل واحد منهم عندما يشد يقول أبياتاً من الشعر، فقال قائلهم: يا إخوتا إن العجوز الناصحه قد أشربتنا إذ دعتنا البارحه نصيحةً ذات بيان واضحه فباكروا الحرب الضروس الكالحه فإنما تلقون عند الصائحه من آل شاسان كلاباً نابحه قد أيقنوا منكم بوقع الجائحة فأنتم بين حياة صالحه أو ميتة تورث غنماً رابحه ثم شد الذي يليه وهو يقول: والله لا نعصي العجوز حرفا قد أمرتنا حدباً وعطفا منها وبراً صادقاً ولطفاً فباكروا الحرب الضروس زحفا حتى تكفوا آل كسرى كفا وتكشفوهم عن حماكم كشفا إنا نرى التقصير عنهم ضعفا والقتل فيهم نجدةً وعرفا ثم شد الذي يليه وهو يقول: لست للخنسا ولا للأخرم ولا لعمرو ذي الثناء الأقدم إن لم تزر في آل جمع الأعجم جمع بني شاسان جمع رستم بكل محمود لقاء ضيغم ماض على الهول خضم خضرم إما لقهر عابر أو مغنم أو لحياة في السبيل الأكرم تفوز فيها بالنصيب الأعظم ثم شد الذي يليه وهو يقول: إن العجوز ذات حزم وجلد والنظر الأوفق والرأي السدد قد أمرتنا بالصواب والرشد نصيحةً منها وبراً بالولد فباكروا الحرب نماءً في العدد إما لقهر واحتياز للبلد حتى قضوا جميعاً شهداء، فحمدت الله سبحانه وتعالى على استشهادهم، وسألت الله عز وجل أن يلحقها بهم على الخير والثبات في الأمر.

والباب في هذا واسع، والمواقف كثيرة جداً، ويضيق المقام عن ذكرها وحسبنا أن طوفنا ببعض منها، والأبواب والتراجم في ذلك كثيرة، والفضائل لأسلافنا عظيمة، سواء منها ما كان في إيمانهم أو عبادتهم أو إخلاصهم أو خشيتهم أو إنفاقهم، أو انشغالهم بمعالي الأمور دون سفاسفها، أو اتباعهم للحق وانصياعهم له وارتباطهم به، وإيثارهم له، وكذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل إلى آخر المواقف العظيمة والميادين الفسيحة التي كان لهم فيها سبق عظيم.

فنسأل الله عز وجل أن يجعل مثل هذه السير باعثة لنا على الخير، ورائدة لنا في ميادين الخير والطاعة والسبق إلى رضوان الله سبحانه وتعالى، وأن نسعى لنقتفي آثار أولئك الرجال، وأن نشمر عن ساعد الجد والعمل؛ لنرقى إلى تلك القمم العالية الشامخة، عَلَّ الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الأجر والثواب، وأن يجدد بنا بعض ما سلف من تاريخ أئمتنا وعلمائنا وقوادنا الصالحين العابدين المؤمنين المخلصين لله رب العالمين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ونسأله جل وعلا أن يلحقنا بهم على خير، وأن يجعلنا ممن يتأسون بهم، ويأخذون من سيرهم، ويهتدون بهديهم؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

والحمد لله رب العالمين، وصَلَّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.