الحمد لله جعل في رمضان خلة الصبر، وجعله مخصوصاًَ بمعارك العز والنصر، وخصه بليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر وسلاماً حتى مطلع الفجر، ووعد فيها بمحو الوزر ومضاعفة الأجر، أحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، أحمده على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، النبي المجتبى، والرسول المصطفى، علم التقى ومنار الهدى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فحديثنا عن بدر والعشر وواقع العصر؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد جعل لنا في تشريعاته وفيما قضى وقدر فيما سلف من الأيام والتواريخ عبراً وعظات ينتفع بها العبد.
فبدر حدث عظيم وفي تاريخ الإسلام، يوم الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والحديث فيها يطول، غير أنّا نقف وقفات نستلُّها من بين تلك الأحداث، ونربطها بما نرومه ونتطلع إليه ونقبل عليه في العشر المرتقبة في ختام هذا الشهر، ونصل ذلك كله بواقع أمتنا ومسلك حياتنا، وما هي أحوالنا في كل ما نتصل به من أمر ربنا وفرائضه، وما نتصل به من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وسننه، وقفة مع الفداء بلا امتنان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين تكلموا بألسنتهم، وعقدوا العزائم في قلوبهم، وصدقوا ذلك بأفعالهم، ومزجوه بدمائهم، وسطروه في تاريخهم، يوم استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عندما تعين القتال بعد إذ لم يكن، حين تحولت المسألة من ثروة إلى ذات شوكة، فقال عليه الصلاة والسلام:(أشيروا عليّ أيها الناس)، فتكلم أبو بكر فأحسن، وتكلم عمر فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال مقالته الشهيرة: يا رسول الله! امض لما أراك الله فنحن معك، فوالله ما نقول لك ما قالت بنوا إسرائيل لموسى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:٢٤]، ولكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالله لو سرت بنا إلى برك الغماد فجالدت بنا لسرنا معك حتى تبلغه.
ثم قال عليه الصلاة والسلام:(أشيروا عليّ أيها الناس)، فقام سعد بن معاذ سيد الأنصار فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل.
فقال سعد يعبر بلسان الإيمان وبكلام اليقين وبموقف الثبات وبرؤية ما وراء هذه الحياة: آمنا بك وصدقناك، وشهدنا على أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة.
ثم قال: صل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك ما شئت، وما أخذت منا أحب إلينا مما تركت لنا، وما أمرتنا بأمر إلا ونحن تبع لأمرك، فامض بنا -يا رسول الله- لما أردت، فنحن معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فانفر على بركة الله.