للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلام أهل العلم على الحجاب]

انظر إلى ما يقوله العلماء لا الجهلاء: فقد نقل الشنقيطي في تفسيره كلاماً نفيساً في بيان شمول معنى هذه الآية لجميع النساء المؤمنات المسلمات، فقال رحمه الله: وجوب الحجاب حكم عام على جميع النساء، لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان اللفظ خاصاً بهن؛ لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه)، فالله جل وعلا قد ذكر في هذه الآية العلة فقال: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ).

إذن فالعلة التي أمر من أجلها بالحجاب وأن يسألن من ورائه هي طلب طهارة قلوب الرجال؛ لئلا يكون فيها فتنة وإغواء في أمر النساء، وطهارة قلوب النساء؛ لئلا يكون فيها ميل أو شهوة في أمر الرجال، فهل هذا خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم؟! وهل هذا لا يوجد إلا في أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام أم أن هذه العلة موجودة في كل النساء وفي كل الرجال؟!

الجواب

أنها كذلك، فالحكم كذلك.

ومن كلام أهل العلم: أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ومع ذلك وضح الشنقيطي قوله، فقال في تتمة كلامه: وضابط ذلك: هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة لذلك الحكم لكان الكلام معيباً، فهذه العلة مربوطة بالحكم، فلو لم نلتفت للعلة فكأننا لم نلتفت لذلك الحكم، وإذا كان حكم هذه الآية عاماً بدلالة القرينة القرآنية، فاعلم أن الحجاب واجب بدلالة القرآن على جميع النساء.

وقال الطبري في تفسيره: (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) أي: من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن.

وقال بعض أهل العلم كلاماً نفيساً: إن كان هذا الأمر مخصوصاً بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم أنهن أعظم نساء الأمة إيماناً، وأتقاهن قلباً، وأزكاهن نفساً، وأعفهن مسلكاً، فإذا أمرن -وهن على هذا الوصف- بهذا، فكيف بمن دونهن من النساء، ولسن على مرتبتهن في الإيمان والتقى والحياء والعفة؟! أفلا يكون ذلك الأمر أوجب؟! وهذا ما يعرف عند العلماء بالقياس الجلي، وقياس الأولى، فإن كنا نطلب من العفيف الشريف أن يلتزم بهذا الأدب والتشريع فمن باب أولى من دونه، فإن كان الخطاب موجهاً إلى الثلة المباركة والصفوة المختارة من المؤمنين المتقين من مدرسة النبوة التي كان فيها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضوان الله عليهم، فإن خوطب أولئك لئلا تتعكر طهارة قلوبهم، فكيف بالذين تلم بقلوبهم الأهواء، وتمتلئ نفوسهم بالشهوات، ولا تجول خواطرهم إلا حول المحرمات، أفلا يمنعون من ذلك؟! بلى والله! إن العاقل يدرك هذا ويبصره، إلا أن الأهواء الخبيثة، والمكر الذي يراد به إفساد المرأة المسلمة ومن ورائها مجتمع المسلمين يدعي -عن غباء وجهل أو عن خبث ومكر- أن هذا تشريع خاص بأزواج محمد صلى الله عليه وسلم، وليس عاماً لنساء المسلمين.

ويأتينا أيضاً قول الحق جل وعلا: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:٣٢ - ٣٣]، والخطاب مرة أخرى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، والقول فيه ما قلناه من قبل، إلا أن هذه الآية أشمل، وتبين لنا قضية مهمة وهي: إظهار تلك العلل العظيمة، والحكم الجليلة التي لأجلها فرضت هذه التشريعات، لتبقى القلوب سليمة، ولتظل النفوس طاهرة، ولينصرف الناس إلى جوانب العمل في التقوى والعبادة، وميادين العمل في الحياة، بعيداً عن هذه الشهوات التي عندما سلطت على المجتمعات المسلمة وغير المسلمة رأينا الانصراف عن التقوى والعبادة والتدين، ورأينا الانحراف عن العمل والعمران وأسباب الحياة الدنيوية.

هذه الآية قال ابن كثير في أول تفسيرها: هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك، وهذا من القياس الجلي الذي قال فيه العلماء: ما علم فيه إلغاء الفارق، أي: بين هذه التي وردت فيها نصوص الآيات وغيرها مما لا فرق بينه وبينها.

وقال القرطبي: التبرج: التكشف والظهور للعيون، وقال في تفسير هذه الآية في سورة الأحزاب: وحقيقته إظهار ما ستره أحسن.

وقال ابن كثير في التبرج: إنها تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها.

وإذا نظرنا إلى مثل هذه المعاني مع النظر إلى الآية التي ذكرناها سابقاً في ذكر الجلباب أدركنا أن الحجاب يقتضي ستر المرأة في لباسها، ويقتضي إدناء الجلباب، وهو: الستر لما تلبسه من لباس محتشم ساتر، وهذا يدلنا عليه ما ذكره أهل العلم من الصور العملية المأثورة المنقولة فيما جاء في وصف حال المجتمع المسلم في عهد النبوة، وفي عهود وعصور كثيرة مختلفة.

والآيات كثيرة، ومنها قوله جل وعلا: {وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:٦٠]، وهذه الآية وإن كانت دلالتها على أمر الحجاب بالاستنباط وببيان المعنى إلا أنها قوية فيه، فالآية واضحة في أن المقصود بها: القواعد من النساء، والتعليل جاء في نص القرآن دون حاجة إلى اجتهاد بشري في بيان المعنى، وقوله تعالى: (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا) أي: اللائي قد بلغن من السن مبلغاً كبيراً لا يتعلق بهن أحد لأجل النكاح والمتعة والشهوة، فهؤلاء النساء يجوز لهن أن يضعن ثيابهن، أي: يتخففن، فلا يكون لهن ذلك الحجاب الكامل الذي يرتبط بمن يتعلق بها القلب لنكاحها من سائر النساء في كل الأعمار، ومع ذلك قال: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ)، فإن بعض العجائز ربما تتشبب، وربما تكون عجوزاً كما نرى في أيامنا هذه فتعمل العمليات الجراحية والتجميلية حتى تبدو للناس وكأنها صبية في الثلاثين من العمر فلو كانت من هذا الصنف فلها التخفف بشرط عدم التبرج وإظهار الزينة.

فلا تجد عاقلاً -بعد وضوح مثل هذه الآية- لا يدرك أن الحجاب والستر والتعفف وعدم إبداء الزينة وإظهارها لغير المحارم، أمر مشروع، فقد دلت عليه الآيات نصاً، ودلت عليه الآيات أمراً لرسوله صلى الله عليه وسلم وأزواجه وبناته، ودلت عليه الآيات حكمة وتعليلاً، ودلت عليه الآيات تخصيصاً ببعض النساء دون بعض، مما يدل على وضوح وشمول هذا التشريع.

ومع ذلك كله فإننا نقرأ اليوم، ونسمع ونرى في المقابلات الصحفية والفضائية كلاماً لبعضهن وكأنهن لا يعرفن قرآناً يتلى، ولا سنة تروى، ولا إسلاماً يشرع ويحكم، وكأن أهواء نفوسهن، وآراء عقولهن مقدمة على كل ذلك، فتلك تقول لك: أرى كذا وكذا، وتلك تقول لك: ليس هناك ما يدل على أن الحجاب واجب، وذلك يقول لك: هذا خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم! وحسبنا في هذا كتاب الله، وسنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، ولو قال أولئك ما قالوا، فلن تصغي لهم أذن مؤمنة، ولن تلتفت إليهم امرأة مسلمة، وذلك مما يغيض قلوبهم، وذلك مما يطيش عقولهم، فنرى منهم ونسمع ما لا يكاد يقبله عاقل، وهو دليل على نزق وعلى حمق، نسأل الله عز وجل أن يصرفه عنهم، وأن يهدينا وإياهم سواء السبيل، وأن يلزمنا شرعه القويم ودينه العظيم وهدي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.