لئن كان لنا مع الله تذلل والتجاء، ولنا مع رسوله صلى الله عليه وسلم اتباع واقتداء فإن لنا مع أنفسنا تذكر واهتداء، تذكر فيه المراجعة والمحاسبة، والتصحيح والتقويم، والعزم والحزم الذي يقود إلى الطاعات، وينجي -بإذن الله عز وجل- ويخلص من المعاصي والسيئات، إلى متى تكبلنا ذنوبنا؟ إلى متى تقيدنا خطايانا؟ وإلى متى تلجم وجوهنا وأفواهنا أمواج الشهوات والشبهات؟ إلى متى ونحن مستسلمون والمواسم تمر فلا تكون الذكرى التي تخرجنا من غفلة إلى ذكر غير منقطع، ومن ضعف إلى عزيمة قوية لا تتضعضع ولا تضعف ولا تتراجع بإذن الله عز وجل، لقد كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يعظ الموعظة تتغير بها المسارات، ويقول الأمر والحكم فيتم إنفاذه في الوقت والحال، ويتذكر الناس لأنهم يعلمون أن الخطاب الرباني والهدي النبوي موقعه عند المؤمن عظيم وجليل، ولذلك عندما تحدث النبي مع بعض أصحابه وأخبر عن حل الذهب والحرير للنساء وحرمته على الرجال كان من القوم رجل في يده خاتم من ذهب فخلعه وطرحه من وقته ولحظته، وعندما قام القوم قيل له: خذه فانتفع به.
قال: ما كنت لآخذه وقد طرحته لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
هكذا يكون التذكر مباشرة يؤدي إلى الاهتداء، والعمل الذي يمتثل فيه الإنسان أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنفال:٢٤]، والأمر بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن كثير يحتاج منا دائماً إلى مثل هذا التذكر والاهتداء، ومرة أخرى في ذوات أنفسنا إلى التفكر والارتقاء، وهي مسألة مهمة، التفكر في حقيقة الدنيا، وصلتنا بها، وانشغالنا بها، وتعلقنا بها، هذه الدنيا هل تساوي فضائل هذه العشر على سبيل المثال؟ هذه الأيام العمل الصالح فيها هو الأحب إلى لله عز وجل، فهل تساوي الدنيا يوماً يكفر سنتين؟ هل تساوي فريضة يخرج بها العبد من ذنوبه كيوم ولدته أمه؟ ما بال الموازين قد اختلت؟ ما بال الأثمان قد أصبحت على غير المقياس الصحيح؟ فكأن الدنيا اليوم في واقع حياة الناس أرجح من الآخرة، وكأن نعيمها وشهواتها ومالها وما فيها من هذه الخيرات أعظم عند كثير من الناس من صلوات وركعات ودعوات، بل أعظم في واقع الأمر من فرائض وشرائع مما هو من شرائع الإسلام ومن فضائله العظام، إذاً هذا أمر جدير بالاعتبار {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}[التوبة:٣٨].
هذا المقياس والميزان القرآني، كل متاع الدنيا ليس بشيء، وغاية وصفه أنه قليل، أي: دون أن يكون له أثر يذكر، أو مقياس أو مقام أو وزن يمكن أن يقارن بما في الآخرة.
وحسبنا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:(لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) كل الدنيا لا تعدل جناح بعوضة، ولو عدلت جناح بعوضة لم يسقِ كافراً شربة ماء، هي أدنى من جناح البعوضة، فهل البعوضة عند أحدنا لها قيمة؟ وهل جناحها معروف أو منظور حتى يكون له قيمة؟ لقد ضربها النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة عظيمة في حقيقة الدنيا، فعندما مر بجدي ميت أسك -أي: مقطوع الأذن- قال:(من يشتري هذا بدرهمين؟ من يشتري هذا بدرهم؟ ثم قال: والله لهوان الدنيا على الله أهون من هذا على أحدكم)، وقال:(ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم قام وتركها)، وهذه الفريضة أين يقضيها الناس؟ هل يقضونها في الدور والقصور، أم في الخيام والعراء؟ ماذا يأخذون من دنياهم؟ قليل من الملابس، وشيء من الزاد على قدر الأيام، فإذا انتهت أيامهم تركوا كل شيء وراءهم، ورجعوا إلى ديارهم، وانتقلوا إلى دورهم، وارتحلوا إلى المكان الذي هيئوه وإلى الدنيا التي أسسوها، ذلك هو درس الحج الأعظم في حقيقة الدنيا والآخرة، وهذا درس الأيام الفاضلة التي نرى فيها الفضل والأجر أعظم من الدنيا وما فيها.