للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تضحية أهل الباطل بأرواحهم]

لننظر إلى صورة أخرى لنرى كيف يكون الباطل مدافعاً عن حقه وهو على باطل؛ حتى ندرك أن أهل الحق هم أولى بذلك.

قبل أن تبدأ المعركة كان من المتعارف عليه أن الراية دائماً في بني عبد الدار من قريش، وكان النضر بن الحارث هو حامل رايتهم في يوم بدر، وقد وقع أسيراً في أيدي المسلمين، ووقوعه في الأسر دليل على الخزي والذلة والجبن والخور، فلما جاءت معركة أحد جاء أبو سفيان القائد العام لجيوش كفار مكة يخاطب بني عبد الدار حتى يثير حميتهم، ويحضهم على التضحية والثبات، فيقول لهم ويناديهم: يا بني عبد الدار! قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إن زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه.

وما كانت العرب أبداً لترضى بالذل والصغار، فصاح بنو عبد الدار: أنسلم لك الراية؟ لترين غداً كيف نصنع؟ وقد ثبتوا ثباتاً يعجب المرء منه، ويأخذ منه في الوقت نفسه درساً وعبرة.

كان حامل رايتهم طلحة بن أبي طلحة العبدري سيد بني عبد الدار، فلما بدأت معركة أحد خرج مختالاً يطلب المبارزة، وكان فارساً من أشجع الشجعان الأبطال عند العرب، فهاب الناس لقاءه، ثم تقدم له الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه، فلم يلبث أن وثب الزبير وثبة عظيمة حتى كان معه على جمله، ثم صرعه من جمله فألقاه في الأرض، ثم ذبحه رضي الله عنه وأرضاه، فماذا صنع بنو عبد الدار بالراية التي أعطيت لهم؟ تقدم لها أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة ورفع الراية مرة أخرى، وصار ينادي: إن على أهل اللواء حقاً أن تخضب الصعدة أو تندقا وظل يقاتل حتى جاءه حمزة رضي الله عنه وأرضاه، أسد رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بسيفه البتار ضربة على كتفه خلع بها يده، حتى بلغ سيفه إلى رئته فقتله، ثم جاء بعد ذلك أخوه أبو سعد بن أبي طلحة العبدري ورفع اللواء مرة أخرى وهو ينادي ويشمخ بلسان بني عبد الدار مرة ثالثة، ثم جاءه بعد ذلك سعد بن أبي وقاص فرماه بسهم فأصاب حنجرته، فاندلقت لسانه فمات من حينه، ثم حمل اللواء بعد ذلك مسافع بن طلحة ابن أبي طلحة ثم جاءه سهم من عاصم بن ثابت رضي الله عنه فقتله، ثم حمل الراية أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة ثم قتل، ثم جاء أخوه الثالث وهو الجلاس بن طلحة ثم قتل، ستة نفر من بيت واحد ثلاثة إخوة وثلاثة أبناء لواحد من هؤلاء الإخوة، ثم تنادى بنو عبد الدار فحمل الراية منهم أرطأة بن شرحبيل، فجاءه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله، فحمل الراية شريح بن قارض منهم أيضاً فقتل، ثم جاء أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري فقتل، ثم جاء ولد لـ شريح بن هاشم فقتل حتى فني في هذه الراية من بني عبد الدار عشرة منهم متواليين من كبارهم وزعمائهم وأشرافهم، فحمل الراية بعد ذلك غلام حبشي لبني عبد الدار يقال له: صواب، وأبلى في حمل الراية أكثر مما أبلى أسياده من بني عبد الدار أنفسهم، حتى قطعت يداه فبرك على الراية بصدره وعضديه، حتى قطعت عنقه وهو يقول: اللهم آعززت؟ أي: هل قمت بحقها؟ فانظر رحمك الله كيف كان أهل الباطل يتوقدون غيرة وحمية وجاهلية يثبتون ويضحون لأجل باطلهم وجاهليتهم الزائفة وأمجادهم الباطلة، وأهل الإسلام يريدون أن ينالوا الشرف اليوم دون أن يضحوا، أو أن يبذلوا، أو يثبتوا، ويريدونها هينة سهلة وهم ينامون ملء عيونهم، ويأكلون ملء بطونهم، ويضحكون ملء أشداقهم ما كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم!