أنتقل إلى النقطة الرابعة وهي: ما يتعلق بالدواء الشافي للوقاية من هذه المعاصي: إن الأمر ليس وصفة سحرية، ولا خطوات نظرية، بل هو أمر قلبي إيماني نفسي يبدأ بتغيير جذري يتناول القلوب في أعماقها والنفوس في أغوارها والنوايا في طواياها قبل أن يتناول صوراً ظاهرة قد تخلو من تأثر القلب وتغير النفس، فتعود بعد ذلك تتجدد المعصية، كما يذكر الرافعي فيقول: إذا سافرت وسافر الهم معك، فأنت مقيم لم تبرح.
أي: أن الذي يسافر من بلد إلى بلد لنزهة يسري بها عن نفسه ولكنه لم يحمل معه همومه فكأنه لم يسافر.
يقول: فإذا أقلعت عن المعصية وحبها في قلبك ولذتها في نفسك وخيالها في خاطرك فكأنك ما صنعت شيئاً.
وكما نقول بلهجتنا العامية: يا زيد! يا ليتك ما غزيت! وكأن الإنسان ينفخ في قربة مخروقة، ولا أعني بذلك أن أهون أمر الانتقال من المعصية، فإن في ذلك خيراً، ولكني أريد أن أقول: إن الأمر الأساسي والعلاج الأكثر تأثيراً والأبعد مدىً والأقرب -بإذن الله عز وجل- إلى أن يكون علاجاً شافياً ناجعاً لا يتجدد بعده المرض ولا تستفحل معه العلة هو العلاج القلبي الإيماني الذي يستأصل حب الشهوة المحرمة، ويقضي على لذة المعاصي الآثمة من القلب، فيطمه عنها، فإذا فطم عنها فإن الصغير يحب الحليب، ويحب رضاع ثدي أمه، ولكنه لو استمر على ذلك لكان يكفيه عيباً وعاراً أن يكون كبيراً ويبقى رضيعاً في حجر أمه، كذلك الذي ما يزال يرضع ثدي المعصية ويركن إلى حضنها، ولا يستطيع أن يفارقها، ولا يستطيع أن يستقل، وكلما مضى في الأرض جذبته إليها، وكلما أراد أن يعلو هبط إلى مستواها، وإلى دناياها، ولذلك يبقى كمثل الغلام الذي لا يفطم، أما إذا فطم فقد يكون في أول الأمر يحن إلى ثدي أمه، لكنه بعد ذلك يرى في الرجوع إليه عيباً وعاراً، وصغاراً وشناراً، ولا يجد فيه حتى ما يحتاج إليه من الغذاء، ثم يستبدل به غذاءً آخر، وما يزال ينوع في أغذيته، ويستجد منها ألواناً وأصنافاً؛ لأنه قد استغنى عن ذلك الغذاء، والتمس غذاءً آخر فيه أكثر النفع وأعظم الفائدة، وكذلك من فطم نفسه عن المعصية فلا يعد إلى الحنين إليها، ولا يرجع إلى حضنها، وليستبدل من الطاعات غذاءً للقلوب فيه نورها وفيه سكينة للنفوس وفيه همة تشحذ عزمه في معالي الأمور وفيه قوة في طاعة الله عز وجل، وفيه تحرر من قيد هذه المعاصي والشهوات، كما فطم عن الحليب وغدا يأكل أنواع الطعام، فمن فطم عن المعصية فإن أبواب الطاعات رحبة أمامه، من ذكر باللسان، ومن تأمل في خلق الله بالعين، ومن تدبر في أحوال الأمم بالعقل، ومن كسب من الحلال باليد، ومن سعي إلى الخير بالرجل، ومن قضاء للشهوة بالحل، بل كل لحظة وكل ثانية وكل جارحة فيها أبواب من الطاعات عظيمة، فإذا أقلعت فإنك لن تبقى خالياً ولا فارغاً، وإذا تركت المعاصي فإن كلما تطلبه من لذة ستجده في الطاعة، وكلما تطلبه من استفراغ الطاقة والقوة ستجده في الطاعة، بل إنه ينتهي العمر وتعجز الطاقات عن أن تبلغ المدى الأعظم الأكمل الذي تتوق إليه نفوس المؤمنين في طاعة خالقها ومولاها سبحانه وتعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:(كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
واستمع إلى الجيلاني رحمة الله عليه وهو يقول لغلام له: استغث بالحق عز وجل، ارجع إليه بأقدام الندم والاعتذار حتى يخلصك من أيدي أعدائك.
من هم أعداؤك؟ النفس المزينة، والشيطان المستولي، والمعصية التي تداعب الخاطر والعقل.
يقول الجيلاني: حتى يخلصك من أيدي أعدائك، وينجيك من لجة بحر هلاكك، تفكر في عاقبة ما أنت فيه وقد سهل عليك تركه، أنت مستظل بشجرة الغفلة، اخرج من ظلها فقد رأيت ضوء الشمس وعرفت الطريق، شجرة الغفلة تربى بماء الجهل، وشجرة اليقظة والمعرفة تربى بماء الفكر، وشجرة التوبة تربى بماء الندامة، وشجرة المحبة تربى بماء الموافقة -أي: الموافقة لأمر الله عز وجل- فالنفوس والقلوب إنما تريد تحويل وجهة فقط، كمن يكون سائراً في طريق ينتهي به إلى هاوية، الحل يسير؛ أن يأخذ طريقاً آخر يؤدي إلى الفوز والفلاح والنجاح، فإذا تغيرت الوجهة سيرى في ذلك الطريق غير ما يرى في الطريق الأول، وسيرى فيه من الناس غير الذين يراهم في الطريق الأول، فإذا حولت مجرى المعصية إلى مجرى الطاعة فإنك تجد طائعين لا تراهم هنا، وإنك تجد فتوحات من الله عز وجل وخيرات لم تكن تراها هناك، وإنك تجد آثاراً ومعالم وابتلاءات وأموراً أخرى لم تكن تراها في ذلك الطريق، وإنما هو تغيير الوجهة.