للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معرفة حقيقة الدنيا]

ومن المعين على ترك المعاصي والذنوب: معرفة حقيقة الدنيا، فهذه الدنيا التي تصرف فيه كل جهدك ووقتك لأجل نيل بعض ملذاتها وشهواتها كلها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فما بال عقلك قد خرج إلى هذا الدنو والسفه في التفكير، حتى لا تعرف ما قيمة الدنيا التي تجعل كل وقتك وجهدك لنيل بعض شهواتها وملذاتها؟! يقول ابن القيم رحمة الله عليه: إذا خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له.

فالجسم دولة، وهناك من يحكم، إما أن تحكم الشهوة فيلغى العقل ويكون الإنسان -عياذاً بالله- كما نرى حال العاصين؛ فأحدهم يشرب الخمر فإذا بالوقار الذي عليه والجاه الذي عنده يتلاعب به الصبيان، ويتسافه عليه السفهاء، ويستخدم عقله في شهوات ترديه وتهلكه، عياذاً بالله! ولذلك أوجز قول ما كتبه الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه في وصف الدنيا، حيث يقول له: أما بعد: فإن الدنيا دار ظعن، وليست بدار إقامة، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه، يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة الخداعة الخيالة التي قد تزينت بخدعها، وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المزنوة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي المعاد فشغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه، فعظمت عليها ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه وحسرات الفوت، وعاشق لم ينل منها بغيته فعاش بغصته، وذهب بكمده، ولم يدرك منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد، فكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها.

فمن أعظم ما يهيئ للتوبة بعد تعظيم الله عز وجل وتذكر حقه سبحانه وتعالى تذكر ما يئول الأمر إليه، وتذكر العقوبة التي توعد الله بها العاصين، فلينتبه إلى هذا الأمر.