[الإيمان]
أولاً: الإيمان.
فأعظم واق من المعاصي وأعظم رادع عن المحرمات وأعظم مذكر دائم للإنسان يرافقه في سره وعلنه في حله وترحاله وفي شهوده وغيبته هو الإيمان بالله عز وجل.
الإيمان الذي ينشئ مملكة الضمير التي لا تجعل العبد المؤمن يستحضر أموراً مهمة من أعظمها وأجلها الخوف من الله، والحياء من الله، وتذكر الآخرة، واستشعار لعظمة الله يبعث على الخوف من الله، واستشعار لنعمة الله يبعث على الحياء من الله، واستحضار لهول الآخرة يبعث على قمع الشهوة في النفس وردعها عن تجاوز الحد، ولذلك كانت التربية الإيمانية والزاد الإيماني بأركان الإيمان الستة أعظم ما يقوي العبد على التزام أمر الله، ويعينه على المصابرة والامتناع عما حرم الله سبحانه وتعالى.
سئل بعض السلف من أهل الإيمان والصلاح والتقى: كيف السبيل إلى غض البصر؟ فقال: علمك بأن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما حرم عليك.
فهل نحن نستحضر مراقبة الله عز وجل، واطلاعه علينا، ومعرفته التي أخبرنا بها في كتابه، كما في قوله جل وعلا: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٩]؟! وهل نتحقق بذلك ونستشعره في خفقات قلوبنا وخلجات أفكارنا وتصرفات جوارحنا؟! أثر عن بعض السلف أنه كان يربي بعض الصغار من ذوي قرابته، فكان هذا الصغير ينظر إليه عابداً متهجداً ذاكراً تالياً داعياً لله سبحانه وتعالى، فالتفت إليه هذا المربي يوماً وقال له: استحضر في قلبك وإن لم تنطق بلسانك أن تقول: (الله ناظرٌ إلي، الله مطلع علي)، فكلما هممت بهم أو فعلت فعلاً فقل ذلك في قلبك، قال: فما زلت أتعود ذلك وأنا صغير السن، فلما كبرت كان ذلك من نعمة الله علي ومن عصمة الله لي.
ونحن نعلم أمثلة كثيرة، منها: المثل القرآني العظيم الذي فسرته آيات القرآن في سورة كاملة في قصة يوسف عليه السلام، قال عز وجل: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:٢٣] جاء هذا الوقت الذي فيه كل الإغراء والإغواء مع الأمن والإحسان، فقال يوسف عليه السلام: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:٢٣]، ثم اعترفت وقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:٣٢]، فكان جوابه: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:٣٣].
وذكر ابن القيم في (روضة المحبين) قصة في عهد عمر رضي الله عنه، وهي تتعلق بشاب صالح كان عمر رضي الله عنه ينظر إليه ويعجب به ويفرح بصلاحه وتقواه، ويتفقده إذا غاب، فرأته امرأة شابة حسناء، فعشقته وتعلقت به، وطلبت السبيل إليه، فاحتالت لها عجوز وقالت: آنا آتيك به.
ثم جاءت إلى الشاب وقالت له: إني امرأة عجوز، وإن لي شاة لا أستطيع حلبها، فلو أعنتي على ذلك لكان لك أجر.
قال ابن القيم في سياق القصة: وهو كان أحرص ما يكون على الأجر.
فذهب معها، فلما دخل البيت لم ير شاة، قالت: أنا آتيك بها.
فظهرت له المرأة الحسناء، فاستعصم عنها وابتعد منها، وأراد أن يذكرها الله عز وجل فتعرضت له، فلما أيست منه دعت وصاحت وقالت: إن هذا هجم عليّ يراودني عن نفسي.
فتوافد الناس إليه فضربوه، فتفقده عمر في اليوم الثاني، وأتي به إليه، فقال عمر: (اللهم! لا تخلف ظني فيه) وقال للفتى: (أصدقني الخبر) فقص عليه القصة، فأرسل عمر إلى جيران الفتاة ودعا بالعجائز من حولها حتى عرف الغلام تلك العجوز، فرفع عمر درته فقال: (أصدقيني الخبر) فصدقته لأول وهلة، فقال عمر: (الحمد لله الذي جعل فينا شبيه يوسف)، هكذا أورد ابن القيم رحمه الله هذه القصة.
ومن ذلك الحديث الصحيح الذي ورد في مثل الثلاثة الذين آواهم الغار فسقطت صخرة فأغلقت عليهم باب الغار، فدعوا بأفضل الأعمال التي تقربوا فيها وأخلصوا فيها لله، فكان من قول أحدهم: (اللهم! إنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها عن نفسها فأبت، حتى ألمت بها سنة من السنين -يعني: حالة من الفقر- جاءتني فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها، فلما تمكنت منها -وفي رواية: فلما قعدت بين شعبها- قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه.
قال: فقمت عنها خوفاً من الله عز وجل بعد أن تمكنت منها، اللهم! إن كنت عملت هذا العمل ابتغاء وجهك ففرج عنا) فكان هو آخر الثلاثة، كما ورد في الحديث.