[فضائل عشر ذي الحجة]
الحمد لله الذي جعل الإيمان أمناً وأماناً، والإسلام سلماً وسلاماً، وأحكام الشريعة صلاحاً وأماناً، والخروج عنها ضنكاً وضيقاً، نحمده سبحانه وتعالى شرع الحج إلى بيته الحرام، وألزم بتطهيره من الذنوب والمعاصي والآثام، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، ونحمده على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافةً أجمعين، وبعثه رحمةً للعالمين، وأشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون! ها نحن نستقبل أيام شهر ذي الحجة، ونلج إلى موسم فضل عظيم، وأجر عميم، وفريضة جليلة، وأنوار وفضائل وبركات وخيرات عظيمة، أفاضها الحق سبحانه وتعالى علينا، وخصنا -معشر أمة الإسلام- بها، وجعل فيها من الأجور ومضاعفة الحسنات، ومن التكثير ومحو السيئات، ومن الجمع والاجتماع وظهور الخيرات ما لا يكون في غيرها من الأيام والليالي.
أيام عظيمة وموسم كريم أظهر الحق سبحانه وتعالى صوراً كثيرة من فضيلته وأجره وأهميته ونفعه، فأقسم سبحانه وتعالى للتعظيم وبيان الأهمية لهذه الأيام بها، فقال جل وعلا: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:١ - ٢]، وهي عشر ذي الحجة على ما ذهب إليه جمهور العلماء.
وفي ذلك روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العشر عشر ذي الحجة، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر) رواه الإمام أحمد والطبراني والبزار والحاكم وصححه.
وفي الحديث العظيم من رواية الصحابي الجليل ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر.
قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) رواه البخاري وغيره.
فما أعظم هذا الأسلوب النبوي البليغ الذي يهيج النفوس إلى الطاعة، ويبعث القلوب ويعلقها باغتنام هذه الأوقات الفاضلة والمواسم الخيرة (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر) صيغة التفضيل المطلقة، صيغة تدل على عظمة كبيرة ومحبة جليلة من الرب الخالق المالك سبحانه وتعالى لمزيد العبادة له وشديد الحرص على التقرب إليه في أيام هي من أيام الله سبحانه وتعالى وموسم هو من مواسم فرائض الله جل وعلا، وفي مكان وزمان تشهد فيه جموع غفيرة من أمة الإسلام أداء المناسك في أفضل بقاع الأرض كلها، في الحرمين الشريفين والمناسك المقدسة، ويزيدنا ذلك في آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أهميتها وفضيلتها.
قال ابن حجر: فيها اجتماع فضيلة الزمان والمكان بالنسبة للحجاج.
ثم قال: وفيها اجتماع العبادات من الصيام والصدقة والصلة والحج والعمرة والإنفاق والنحر والأضحية ما لا يجتمع في غيرها من العبادات في سائر الأيام، وهي فضائل بعضها فوق بعض.
ومن هنا كان تصرف أسلافنا، فهذا سعيد بن جبير رحمه الله كان إذا دخلت عشر ذي الحجة اجتهد في العبادة حتى ما يكاد يقدر عليه، وكان يقول: لا تطفئوا سرجكم في ليالي العشر.
وقد وردت أحاديث فيها إشارة إلى صيام هذه الأيام، وبرز في هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومها، والتاسع من هذه الأيام ثابت بالحديث الصحيح صيامه لغير الحاج.
وكذلكم نجد في فضيلة هذه الأيام ما اختصت به من الذكر والتهليل والتكبير لعموم المسلمين، والتلبية للحجاج والمعتمرين، مما ينبغي أن ينشغل به المسلمون في مثل هذه المواسم العظيمة.