إنها آلام وآلام وآلام شديدة فضيعة، ولكن هل نذكر هذه المآسي لنذرف الدمع، وحق لنا أن نذرف بدل الدموع دماء؟ وهل نذكرها لنرفع الصرخة والبكاء أو لنلطم الخدود؟ إنما نذكرها لنحيي الإيمان في القلوب، ولنعيد أنفسنا إلى منهج الله عز وجل، ولنعرف حقيقة أعداء هذا الدين، ولنستيقن بقول الله عز وجل:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:٥ - ٦].
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج قال عز وجل:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}[البقرة:٢١٤] فهل نوقن بهذه الآيات التي نتلوها كثيراً ولا نتدبر ولا نتأمل في معانيها إلا قليلاً؟ وهل نؤمن بأن نصر الله سبحانه وتعالى يوشك أن يأتي به سبحانه وتعالى إذا تحققت في الأمة شروط هذا النصر؟ إنه ينبغي لنا ألا يدب اليأس في قلوبنا؛ لأنه:{لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ}[يوسف:٨٧] ولا حياة مع اليأس، ولا يأس مع الحياة، ولذلك كلما اشتدت قبضة الظلم، وكلما علت راية الكفر والطغيان، كلما كان ذلك مؤذناً بإذن الله عز وجل بفجر يوشك أن ينبثق بعد هذا الليل الطويل؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد وعد، ووعده الحق، وقد ذكر سنته، وسنته لا تتخلف، فقال:{إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:٧] ويقول الله سبحانه وتعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ}[آل عمران:١٦٠] ولكنه لا ينصر إلا أولياءه، ولكنه لا ينصر إلا أتباعه، ولكنه لا ينصر إلا دعاته، ولكنه لا ينصر إلا من يجاهدون في سبيله، ولكنه لا ينصر إلا من يخلصون له، ومن يخضعون لعظمته وجبروته، ومن يتبرأون من كل حول وقوة إلا حول الله عز وجل وقوته.
إن هذه الآلام الفضيعة القاسية يكمن فيها نفسها كثير من الآمال المشرقة الوضيئة التي تلوح في الأفق، فهذه الآمال تبعث الحيوية في النفوس المؤمنة والعزيمة في القلوب المسلمة؛ إنها آمال حقيقة ليست مجرد أوهام، وليست مجرد أحلام نداعب بها العواطف والخيالات، ولكنها آمال صادقة، فانظروا إلى أرض فلسطين اليوم فسترون أن مساجدها تكتظ بشبابها وشبانها، وانظروا إلى أطفال الحجارة فستجدون أنهم يحملون حجارتهم بيد ومصاحفهم باليد الأخرى، لقد خرج إلى الساحة اليوم أصحاب الأيادي المتوضئة، والجباه الساجدة، والشفاه المسبحة.
واسمعوا إلى الصيحات: إنها: الله أكبر، الله أكبر، خيبر خيبر يا يهود! جيش محمد سوف يعود! لقد تغيرت لغة الكلام، لقد تغيرت صورة العمل، لقد تغيرت قبل ذلك أهواء النفوس وحقائق الإيمان في القلوب، إنها أوبة صادقة إلى الله سبحانه وتعالى، إنها أمثلة مشرقة ترى فيها الطفل الصغير وهو يلقن الأمة كلها درساً في الثقة بنصر الله، وفي المضي على منهج الله، وفي الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ ليلقن المتخاذلين والمتكاسلين والخائفين والواهمين درساً عملياً تتحدث فيه الأفعال دون الأقوال، إنها مدرسة تنبئ أن جيل القرآن وأبناء المساجد هم الذين سيكون على أيديهم بإذن الله عز وجل تنزل النصر ورجوع العزة وديمومة الوحدة لهذه الأمة الإسلامية بإذن الله عز وجل.
وهكذا في أرض الهند التي يعاني كثير من المسلمين فيها من الجهل، لكنهم جعلوا صدورهم فداءً لمساجد الله وبيوت الله عز وجل، خرجوا يحمون مقدسات المسلمين، لكنهم ظلوا رغم هذه الهجمات الشرسة التي ينادي فيها الهندوس بإعادة تسعمائة مسجد إلى معابد هندوسية، والتي هدموا فيها عديداً من المساجد، والتي مارسوا فيها كثيراً من الجرائم، والتي يسعون فيها بالقوة لتغيير المسلمين وصدهم عن دينهم، مع ذلك يثبتون ثبات الجبال الرواسي، وتنتشر فيهم -بحمد الله- حركة علمية طيبة، وتبدأ فيهم روح عزة إسلامية قوية؛ إنها المحنة التي تنتج في أفنائها وفي أعطافها المنحة الربانية؛ إنها المنحة التي يصل فيها المسلمون إلى حد الضعف الشديد الذي يستشعرون معه صدق حاجتهم لله سبحانه وتعالى، ويرون أنه لا سبيل لهم ولا نجاة إلا أن يعلنوا الصلح مع الله، وإلا أن يسألوا النصر من عند الله سبحانه وتعالى.
وهكذا صور أيضاً تتكرر في أرض البوسنة والهرسك التي كان أبناؤها خمسين عاماً تحت الشيوعية الحمراء في تغريب وتجهيل وحرب، ثم إذا بهم مع ذلك -من فضل الله عز وجل- يأوبون اليوم إلى دين الله، وتتحجب نساؤهم، ويصلي رجالهم، ويدعو مجاهدوهم، وإذا بهذا النبض الإسلامي يتكاثر ويتعاظم في كل موقع محنة، وفي كل مكان مظلمة تقع على المسلمين؛ لأن هذه سنة الله سبحانه وتعالى.