ثلاثيات أخرى نأخذها في باب آخر، وهو: باب الصلة بالدنيا والزهد فيها أو التعلق بها: عن يحيى بن معاذ الرازي وكان من الصالحين ومن العباد، قال: طوبى لمن ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى ربه قبل أن يلقاه.
وفي هذا المعنى مقالة أخرى قريبة منها لـ إبراهيم بن أدهم وكان من الزهاد العباد أيضاً، وسئل: كيف أخذت بهذا الزهد وسلكت هذا المسلك؟ فقال: بثلاثة أشياء: رأيت القبر موحشاً وليس معي مؤنس، ورأيت الطريق طويلاً وليس معي زاد، ورأيت الجبار قاضياً وليس معي حجة.
وقال بعضهم في هذا المعنى أيضاً: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين، وزهده في الدنيا، وبصره بعيوب نفسه.
فهذه المعاني أيها الإخوة الأحبة! هي تذكير لنا فيما يتعلق بنظرنا إلى الدنيا وصلتنا بها وعملنا فيها، فإن الذي يتفكر في هذه الحياة الدنيا وحقيقتها وسرعة زوالها وانقضائها، وكثرة شقائها وعنائها، وذهاب وفناء لذاتها وشهواتها، وأن وراءها قبراً، وأن وراءها حياة برزخية، وأن وراء ذلك حساباً ووقوفاً بين يدي الجبار؛ من أدرك ذلك عرف أن السعادة له فيما قاله يحيى بن معاذ: طوبى لمن ترك الدنيا قبل أن تتركه، والمقصود بالترك هنا ليس ترك المباحات وليس ترك أسباب المعاش، وإنما ترك التعلق والانشغال والانغماس والدوران في هذه الدنيا، كما قال عليه الصلاة والسلام:(تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).
هذا الذي لم يعد له هم إلا دنياه، ولم يعد له تفكير إلا فيها، ولم يعد له سعي ولا جهد إلا في تحصيلها، ولم تعد له خصومة ولا نزاع إلا في الحصول على حطامها، وكم من الناس اليوم في هذا الميدان، نسأل الله عز وجل أن يسلمنا.
أما قوله: وبنى قبره قبل أن يدخله، أي: بالعمل الصالح، وبالاستغفار، والاستعاذة من عذاب القبر، وبالصلوات والدعوات.
وقوله: وأرضى ربه قبل أن يلقاه، أي: بما يعمل من الخير، وما يخلص فيه من الطاعات والأعمال الصالحة، وبمعنى ذلك أيضاً: وحشة القبر فلا أنيس إلا العمل الصالح، وطول الطريق فلا زاد إلا العمل الصالح، والوقوف بين يدي الجبار ولا حجة إلا العمل الصالح.
فهذا الذي ينبغي أن نتذكره.
وقوله: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين، أي: فقاده الفقه في الدين إلى الزهد في الدنيا، وقاده هذا الفقه في الدين أيضاً إلى أن بصره بعيوب نفسه.