[بعض أسباب الغيرة السلبية]
وأذكر في هذا الصدد الأسباب التي تؤدي إلى هذه الظاهرة: فأول هذه الأسباب التي تحمل على هذه الغيرة: عدم قوة ورسوخ التربية الإيمانية: إذ المؤمن الذي يتربي على خلال الإسلام وآداب هذا الدين يعلم أن أمر المحبة في الله عز وجل يقضي بألا يكون هناك هذا التنافر وتلك البغضاء، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً) وبدأ في هذا الحديث بقوله (إن الظن أكذب الحديث)، أي: مجرد الظن السيئ الذي تسيء به إلى أخيك؛ فإن هذا الظن يورث في النفس نوعاً من النفرة، ويزرع بذرة من بذور البغض ليس هذا محلها ولا مكانها.
الأمر الثاني: عدم استحضار طبيعة الواقع الدعوي: انظر إلى المجتمعات الإسلامية كم ترى فيها من الملتزمين شرع الله! وكم ترى فيها من الدعاة! وكم ترى فيها من العلماء! ترى قلة، وأنت تريد أن تجعل هذه القلة بصنيعك أقل من القليل؛ حيث إنك تفرق صفها، وتشيع الفرقة بينها، وتشوه صورتها، لينفر الناس عنها ومنها، وإذا بك في حقيقة الأمر تسيء إلى الدعوة، ولا تستحضر أمر المواجهة والكيد الذي يحاك ويوجه للدعوة والدعاة على اختلاف اجتهاداتهم وتصوراتهم.
إن واقع العصر اليوم يدلنا على أن المسلم يُعادى ويكاد له ويضطهد لمجرد كونه مسلماً ولو كان مسلماً بالاسم، فكيف إذا كان مسلماً يعرف إسلامه، ويلتزم شرع الله عز وجل، ويدعو إليه، ويريد أن يحيي موات هذه الأمة، وأن يرفع راية الجهاد فيها؟ فإذا كان الدعاة على هذا القدم فإنهم ألد الأعداء وأعظم الخصوم بالنسبة لمن يحاربون هذا الدين، فإذا كنت أنت بهذه الغيرة المنحرفة تساهم في ضربهم أو تشويههم فإنك كأنما أخذت معول الأعداء لتريحهم من بعض العناء، وعندما سمع بعض السلف أحدهم يجرح أخاً له قال: هل قاتلت الترك؟ قال: لا، قال: هل قاتلت الروم؟ قال: لا، قال: هل قاتلت الهند؟ قال: لا، قال: أفيسلم منك أهل الروم، والترك، والهند، ولا يسلم منك أخوك المسلم؟! عجباً لأولئك؛ لم يسلم المسلمون من ألسنتهم، ولم يسلموا أيضاً من التخطيط الذي يبدعون فيه ويبذلون فيه جهدهم لحرب إخوانهم، وهم ليس لهم في مواجهة الأعداء أي جهد يذكر، وبالتالي فهم في هذا يساهمون في هذه الخطورة العظمى.
ثالثاً: الأمراض النفسية من الكبر أو حب الذات والأنا أو الغرور: فإن بعضاً من أولئك فيهم علل مستعصية وأمراض سرطانية تحتاج إلى استئصال، وما لم تستأصل فإن نفس الواحد منهم تدفعه وتدعوه إلى مثل ذلك السلوك.
ومن ذلك أيضاً وهو سبب مشترك: عدم الفقه والعلم: فتراه يقول: الحق أحق أن يتبع، ويقول: لابد أن أهجره في الله، ويقول: لابد أن يكون هناك مفاصلة.
فعجباً كيف توقع الأمور في غير موقعها، وتنزل النصوص في غير ما هي منطبقة عليه؟! فإنك تجد أنه بمجرد اختلافه مع أخيه في رأي واحد أو في مسألة واحده بدعّه أو فسقه، ورأى أن من الواجب الشرعي أن يهجره، بل من الواجب الشرعي أن يحاربه! وهذا فقه سقيم وجهل مركب كما يقال.
فهذه بعض تلك الأسباب لانحراف الغيرة عن واقعها الصحيح، وبالجملة فإن هذا الانحراف العاطفي واقع في صفوف الدعوة وشبابها، وإحكامه يكون بالتربية الإسلامية والعلم الشرعي والإدراك الواقعي والقيادة الراشدة؛ ولنعلم أن من تسمع له الكلمة من العلماء والدعاة والخطباء مسئوليتهم مضاعفة، فينبغي ألا يكونوا سبباً في توسيع شقة الخلاف، أو إذكاء نار التباغض أو التحاسد أو غير ذلك، وينبغي أن يعلم كل مسموع الكلمة أن كلمته يطيرها عنه المطيرون، وينقلها عنه الناقلون، ويفهمها عنه الفاهمون وغير الفاهمين، وهو في آخر الأمر يدرك مثل هذا، لكنه للأسف لا يلقي له بالاً.
فإذا كان هناك شباب صغار فإن لهم كباراً، ولو توقعنا أنهم أخطئوا فلنا أن نغض الطرف عنهم، أو أن نعتذر لهم بجهلهم، لكنهم إن رجعوا إلى من يستشيرونه أو يقتدون به فوافقهم على خطئهم أو شجعهم عليه عرفنا أن تركيبة عقولهم وأن صيغة تربيتهم مبنية على أساس خاطئ، ويكون الأمر حينئذ أكبر وأخطر، فالصغير أو الجاهل يغتفر منه ما لا يغتفر من غيره.
فهذه بعض المعالم والملامح المتعلقة بأمر العاطفة والدعوة، وأسأل الله عز وجل أن يعصمنا من الزلل، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.