وهناك مسألة ثانية وهي: ما الذي يجمع الأعداء حولنا؟ وما الذي يوجه السهام نحو صدورنا؟ وما الذي يجعل المؤامرات تحاك لنا؟ أتراها ثرواتنا؟ أتراها عقولنا المبدعة واختراعاتنا المتكاثرة؟ إن كان شيء من ذلك فهو قليل نادر، لكن الحقيقة جلية واضحة ساطعة، صورها النبي صلى الله عليه وسلم تصويراً بديعاً في حقيقتها حين قال:(يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها).
إنها صورة من هذا التكالب، تكشف الآيات القرآنية عن حقيقته في صورة مطردة وحقيقة دائمة؛ قال عز وجل:{َولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا}[البقرة:٢١٧] فصدقوا القرآن وأيقنوا به، فقوله:(لا يزالون) فعل مضارع يدل على الاستمرار والدوام، فهم:(لا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ) فلا تظنوا أن وقتاً سيمر وهو وقت للسلام كما يقال، وليس بالضرورة أن تكون المقاتلة منازلة في الميدان بالحرب والقتل، فإن مقاتلة قد وقعت وأدمت في إيماننا وإسلامنا أكثر؛ وذلك عبر وسائل الإعلام، ومناهج التعليم، ودسائس السياسة وغير ذلك.
وقوله:(ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) أي أن تلك هي الغاية، فلو أعطيت (١٠%) من التنازلات فستظل المطالبات، وستظل الاعتداءات (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ)، أي: حتى يصل الأمر إلى أن يكون قلبك قلبهم، وعقلك عقلهم، وهواك هواهم، وعداؤك عداءهم، وولاؤك ولاءهم، وبراؤك براءهم، كما قد وقع من أبناء ملتنا في صور كثيرة نراها ونعرفها.
وقوله:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}[البقرة:٢١٧] أي: من وصل إلى هذه المرحلة فأي خسارة خسر؟ وأي أمر في حياته وقع؟! {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:٢١٧] انتهى كل شيء، فمن باع دينه باع حياته ودنياه وأخراه، ومن هان عليه دينه هانت عليه قيمته، وهانت مكانته، وهانت قوته أمام أعدائه؛ لأن أي أمة أو رجل أو إنسان بلا مبدأ ولا قيمة ولا معتقد يستهان به ويذل مهما كان عنده من أسباب القوة المادية.
قال السعدي في تفسيره عند هذه الآية: هذا الوصف عام لكل الكفار.
وقال القاسمي: المقصود تحذير المؤمنين منهم -أي: من الكافرين- وعدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور.
فكم نرى ممن يغتر بأن هناك أموراً كثيرة نتفق فيها، ونجتمع عليها، وتقربنا من أعدائنا، وغير ذلك مما تسمعون.