يقول الله جل وعلا في آيات متتابعات من سورة محمد:{إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ}[محمد:٣٦]، قال ابن كثير: الله جل وعلا غني عنكم، لا يطلب منكم شيئاً، وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساة لإخوانكم الفقراء؛ ليعود نفع ذلك عليكم، ويرجع ثوابه إليكم.
ثم يقول الله جل وعلا:{إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ}[محمد:٣٧]، وكلنا من خلق الله جل وعلا، وكل الرزق من عنده، وكل ما في الدنيا وباطنها وظاهرها وما بين السماء والأرض له جل وعلا، ولو أنه أمرنا أن ننفق مالنا كله وأن نعطي كل ما لدينا لكان في ذلك حرج، ولنتج عنه بخل، لكنه سبحانه وتعالى ما جعل ذلك إلا بقدر يسير، وليس إلا لإخوان لك في الإيمان والاعتقاد من ذوي الحاجات؛ ليعود النفع إليك، ويكتب الأجر والثواب لك.
قال قتادة: قد علم الله سبحانه وتعالى أن في إخراج المال إخراج الأضغان، وتنشل به الأحقاد من القلوب، وينتزع به الحسد من النفوس، ويحصل به الوئام والمحبة والتكافل والتعاون بين أهل الإسلام، ولذلك يقول ابن كثير في هذا: صدق قتادة؛ فإن المال محبوب إلى النفس، ولا يمكن أن يخرجه الإنسان إلا إلى محبوب أعظم منه، وهو حبه لله عز وجل، قال الله سبحانه وتعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران:٩٢].
ثم يقول جل وعلا:{هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ}[محمد:٣٨]، يقول ابن كثير: إنما نقص نفسه من الأجر، وإنما يعود وباء ذلك عليه، كما مر بنا في تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم:{وَاللَّهُ الْغَنِيُّ}[محمد:٣٨] أي: عن كل ما سواه سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}[محمد:٣٨]، وهذا تهديد ووعيد من الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا قد بسط في هذه الآيات الصور الكثيرة التي تحذر وترهب المسلم من أن يكون من البخلاء غير الباذلين في سبيل الله عز وجل.
وفي صحيح البخاري وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثل له -أي: يوم القيامة- شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمتيه -يعني: بشدقيه- فيقول: أنا مالك).